قضايا ودراسات

انتفاضة القدس.. الصور والتداعيات

عبدالله السناوي

للصور والرموز تأثيراتها العميقة على أي سيناريو محتمل لمستقبل القدس، أحد المفاتيح الكبرى للقضية الفلسطينية.
على عكس تيار الريح السياسي في العالم العربي أثبت المقدسيون أننا لسنا ضعفاء إلى حد استباحة الحرمات والمقدسات والحقوق دون رادع، وأن «إسرائيل» ليست قوة خارقة للطبيعة تهبط إجراءاتها كعواصف لا راد لها.
بأي معنى سياسي لحقت بإسرائيل هزيمة موجعة في صراع الإرادات على مستقبل المدينة المقدسة، لكنها ليست المواجهة الأخيرة.
في نفس التوقيت صادق «الكنيست» بالقراءة الأولى على مشروع قانون «القدس الموحدة»، يضع شروطاً تعجيزية على أي انسحاب منها في حال التوصل إلى اتفاق تسوية بشأنها.
المعنى خشن وصريح، فإسرائيل غير مستعدة ولا مهيأة لأي تراجع عن خططها بتهويد المدينة المقدسة والمواجهات سوف تطول.
من هنا يكتسب انتصار «انتفاضة القدس» أهميته التاريخية من إثبات حجم الضرر الذي يلحق بإسرائيل، إذا ما تمادت في سياسات التهويد والتنكيل العنصري.
فضلاً عن أنها وضعت خطاً أحمر عربياً في الهواء، يمنع أية مقايضة على القدس، أو تنازل عنها، وإلا فإن الثمن سوف يكون دمويا.
في الانتفاضة الجديدة، تدفق مئات الألوف إلى محيط الأقصى وصلّوا في الشوارع الموازية دون خشية اعتداءات قوات الاحتلال وجماعات المستوطنين ولا أصوات الرصاص التي دوت في المكان وأسقطت شهداء.
بدت مشاهد الصلوات منقولة إلى العالم على الهواء مباشرة مهيبة والأصوات ترتفع بنداء «يا الله».
كانت تلك الصورة الأهم في المواجهة التي جرت، فهناك قوة غاشمة تغلق المسجد الأقصى لأول مرة منذ خمسين سنة، وتنتهك حرمته ببوابات إلكترونية وكاميرات ذكية، وهذا اعتداء صريح على حقوق العبادة المنصوص عليها في المواثيق الدولية.
لم يكن هناك حل ممكن أمام حساسية قضية الأقصى وقوة الغضب، التي أظهرها المقدسيون، سوى أن تضطر حكومة «بنيامين نتانياهو» لإلغاء كل الإجراءات الأمنية، التي كان متوقعاً أن تتبعها إجراءات أخرى أشد وأخطر.
بعد ذلك الإلغاء الاضطراري دخلت حكومة «نتانياهو» في منازعات أفضت إلى ممارسة قدر أكبر من العنف ضد المقدسيين المصلين العزل حتى لا يقال في المزادات العنصرية الداخلية أنها قد هزمت.
الحقائق قالت كلمتها وانتهى الأمر.
الحقيقة الأولى، أن انتفاضة القدس أعادت تعريف القضية الفلسطينية على الوجه الصحيح، قوات احتلال تبطش وشعب أعزل يقاوم.
تلك مسألة أريد طمسها بكلام مراوغ عن إحياء عملية التسوية دون أن تكون هناك عملية ولا تسوية، إلا إذا كان المقصود الإذعان الكامل لما تطلبه «إسرائيل» من تطبيع اقتصادي واستراتيجي واستخباراتي مع العالم العربي دون عودة أي أرض احتلت عام (1967)، أو الاعتراف بأية حقوق فلسطينية منصوص عليها في قرارات دولية.
هذا هو جوهر ما يطلق عليها «صفقة القرن».
بأي تقدير سياسي تلقت «صفقة القرن» ضربة هائلة على عمودها الفقري، وعاد من الصعب تسويغها بالتنازلات المجانية التي انطوت عليها.
ذلك يفضي ولو بصورة مؤقتة إلى وقف أي اندفاع كبير في مشروعات تهويد القدس وفرض الولاية على المسجد الأقصى دون أي أوهام عن أي تراجع.
كما لم يعد ممكناً الكلام عن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة بذات درجة الاستهتار السابق، الذي أبداه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في حملته الانتخابية.
بتداعيات انتفاضة القدس الكلام كله مرشح لنوبة صمت إلى أجل غير مسمى.
الحقيقة الثانية، تقويض فكرة أريد لها أن تشيع في السياسات العربية من أن الأولوية الآن في الإقليم للحرب على الإرهاب الإسلامي، وأن ذلك موضوع تفاهم ممكن مع «إسرائيل»، دون اعتبار أنها نفسها أحد أسباب عدم الاستقرار وتزكية نزعات التطرف بسياساتها العنصرية، فضلاً عما تمارسه من إرهاب دولة مدان بالقوانين الدولية.
بصياغة أخرى فقد تلقت ضربة لا يستهان بها لمشروع دمجها في الإقليم كأحد مراكزه الرئيسية بعد انتهاء الحرب على «داعش».
الحقيقة الثالثة، أن هناك وضعاً جديداً بالأراضي الفلسطينية المحتلة تفاعلاته في بداياتها، فقد نشأت واشتدت واستقطبت «انتفاضة القدس» مئات الألوف خارج عباءات الفصائل الرئيسية، كأنه إعلان بالحاجة إلى أطر سياسية جديدة جامعة أكثر أهلية للتحدث باسم القضية الفلسطينية في لحظة تقرير مصائر.
ذلك مؤشر على تحولات محتملة في البنية السياسية الفلسطينية.
اكتسبت «انتفاضة القدس» زخمها من عفوية رد الفعل والتنادي العام والشعور الفادح بالخطر، دون دور كبير للفصائل السياسية، باستثناء وقف التنسيق الأمني الذي أعلنته السلطة الفلسطينية، وهو قرار مؤقت مرهون بإلغاء الإجراءات «الإسرائيلية»، واستعراضات عسكرية في غزة لم يكن لها لزوم، فقد شوشت على انتفاضة الصدور المفتوحة التي ألهمت تعاطفاً إنسانياً.
شيء ما عميق يحدث في عمق التفاعلات الفلسطينية لم يتضح حتى الآن مداه ولا الصورة التي سوف يأخذها.
بترجمة سياسية أخرى عكست «انتفاضة القدس» حجم السخط العام على الانقسام الفلسطيني بين رام الله وغزة.
بالوقت نفسه عكست مدى التكاتف الوطني بين المسيحيين والمسلمين، فقضية عروبة القدس واحدة.
تداخلت أجراس كنيسة القيامة مع أصوات الأذان الذي ارتفع في محيط الأقصى، وبدا التلاحم كاملاً.
هذه رسالة يحتاجها العالم العربي، فالتنوع الديني قوة، والمشترك القومي مسألة مصير.
وقد كان الانكشاف الأخلاقي والعقيدي مزرياً للجماعة التي تطلق على نفسها «أنصار بيت المقدس»، قبل أن تبايع «داعش» باسم «ولاية سيناء».
بينما كان يدافع المسيحيون، الذين يستحلون دمهم، عن الأقصى المبارك بدت كل قضيتهم ترويع مجتمعهم واستهداف ضباطه وجنوده.
هذا سقوط نهائي في اختبار القدس، لكنه لم يكن مفاجئاً على أي نحو.

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى