«فن الرسم العربي» لريتشارد إتنغهاوزن: أعاد إلى العرب حقوقهم الفنية
ابراهيم العريس
قبل كتاب ريتشارد إتنغهاوزن، كان كل ما له علاقة بالتاريخ القديم أو الحديث لشعوب منطقتنا، سواء كان فنياً أو سياسياً أو فكرياً، يقدَّم بوصفه إسلامياً. ومن هنا، كان ثمة الكثير من الكتب حول «الفنون الإسلامية»، لكن خصوصيتها كانت تكمن دائماً في أنها تقيم خلطاً بين فنون الشعوب العربية، وتلك التي أبدعها مسلمون آخرون من غير العرب، كالمغول الذين بعدما كانوا همجاً اعتنقوا الإسلام وأسسوا واحدة من أرقى الحضارات الآسيوية في ذلك الحين، وكالإيرانيين الذين انتجوا فنوناً بالغة الرقيّ، ثم من بعدهم جميعاً، الأتراك الذين بوراثتهم تلك الأمم الآسيوية التي غزوها، ومن جراء قربهم من أوروبا وتطلعاتهم الى الاختلاط بها، وهي تطلعات انعكست على مستوى الفنون حتى في عز الحقب التي كانت تسعى فيها الإمبراطورية العثمانية، الى غزو الغرب. وفي خضم ذلك الخلط بين العديد من الفنون الإسلامية، ضاعت الإنجازات العربية في المجالات الفنية، وراح كثر يعتقدون أن العرب لم تكن لديهم أية فنون، مستندين في هذا الاعتقاد الى مواقف رُبطت بالدين وناوأها كثر من مفكرين وكتاب، حتى جاء الإمام محمد عبده وحسم الأمر لمصلحة إيجابية علاقة الإسلام بالصورة، فكان انفتاح على وجود فنون عربية. وكان إتنغهاوزن من بين أوائل الذين التقطوا فكرة وجود فنون عربية مستقلة عن عمومية الفنون الإسلامية. ومن هنا حمل كتابه الأساسي في هذا المجال عنواناً بالغ الوضوح ولكن: بالغ الإستفزاز أيضاً -: «فن الرسم العربي». وآية ذلك أن معظم المراجعات التي طاولت كتابه عند صدوره في العامين الأولين من العقد الستيني في القرن العشرين، لم تتوقف عن التشكيك في نسبة جزء كبير من الرسوم التي استخدمها في تزيين كتابه والبرهنة على ما يذهب فيه من حقيقة وجود فنون عربية، متمايزة عن الفنون الإسلامية، الى تلك العربية.
> أصدر ريتشارد إتنغهاوزن هذا الكتاب بعد أن عمل سنوات طويلة في البحث والتدقيق وفي التنقيب في المخطوطات العربية القديمة، كما في زيارة الصروح العمرانية والقصور الباقية من تلك الأزمنة، في الأندلس في شكل عام، كما في بغداد والقاهرة وصولاً الى شتى المواقع والحواضر العربية الأخرى. ومن المعروف انه اشتغل بارتباط وثيق مع زميله وتلميذه أوليغ غرابار الذي كان من أوائل الذين شاطروه إيمانه بوجود فنون عربية، تشكيلية وتزيينية وعمرانية وفي مجال الرسوم الملحقة بالكتاب وفي كل المجالات المشابهة. ولقد أضحى هذا الكتاب يومها مرجعاً أساسياً في هذا المجال، سيستفيد منه لاحقاً معظم الباحثين الذين اشتغلوا على الفنون الإسلامية. أما الذين بادروا منذ البداية الى التشكيك بـ «عربيّة» الأعمال التي استند إليها وحللها، فإن جوابه القاطع كان أنه هو لا يتحدث عن العرب كجنس أو عرق، بل عن أولئك العرب الذين ارتبطوا باللغة العربية والذهنية العربية والتاريخ العربي وأبدعوا في سياقها. ومن هنا، لئن كان الواسطي – صاحب رسومات المقامات بين أعمال أخرى – مثلاً، أرمني الأصل فإنه كان يعمل ضمن إطار انتمائه الى الحضارة العربية، من دون أن يُضطر الى إعلان تبعيته لأية حضارية تجعل الدين عنوانها.
> يبقى أن الكتاب الذي قُلّد كثيراً منذ صدوره، والذي تُرجم الى العديد من اللغات، قدّم موضوعة بأسلوب بسيط ولغة جزلة وتتابع في السياق التاريخي وفي نسق تراتبية الفنون، عرف كيف يفرض بالتالي رؤية جديدة للفنون العربية، لا سيما من خلال تحليله المعمق للعلاقة بين الرسوم التي اشتغل عليها وديناميات المجتمعات، الغربية أو المشرقية التي عبّرت عنها، مع وقفات مهمة عند الفنون التي انتشرت وسادت في الأندلس منذ أزمان مبكرة. والحقيقة أن هذا كله ليس بعيداً من أسلوب إتنغهاوزن المعتاد على الدقة والنزاهة العلمية. ما ينقلنا هنا مباشرة الى الحديث عن هذا الباحث الذي كرّس سنوات عديدة من حياته للعرب والمسلمين وفنونهم.
> من الصعب، بالطبع، أن يجابهنا في التاريخ المعاصر عامان شهدا من النزوح الجماعي للعقول المفكرة في أمة من الأمم، قدر ما حدث خلال العامين 1933 و1934 في ألمانيا. فهما شهدا أكبر هجرة جماعية للمثقفين الألمان، هرباً من ممارسات النازيين وبطشهم. لقد كانت الهجرة من الضخامة بحيث بدت ألمانيا في ذلك الحين وكأنها فرغت من كل مفكريها، مثقفيها ومتنوريها. ومن بين الذين بارحوا ألمانيا في ذلك الحين شاب كان يومها في الثامنة والعشرين من عمره، وبالكاد بدأ حياته العملية. لم يكن مثقفاً كبيراً ولا عقلاً شهيراً، لذلك لم يتنبه اليه أحد حين توجه في 1934 الى الولايات المتحدة الأميركية، مهاجراً وهو يحمل في جعبته تخصصاً بالكاد كان أحد يدرك ماهيته في تلك الأيام. كان اسم الشاب ريتشارد إتنغهاوزن. اما تخصصه فكان تاريخ الفنون الإسلامية. وإتنغهاوزن هذا، سيقترن اسمه بعد سنوات عديدة، وخلال إقامته في الولايات المتحدة، بواحد من أشهر الكتب التي صدرت بلغة أوروبية عن الفن الإسلامي والعربي ونعني به تحديداً «فن الرسم العربي» الذي لا يزال يعتبر حتى اليوم الكتاب الأوسع انتشاراً في مجاله، والمرجع الأساسي فيه. وهو، إذ وضع في 1962 وزين برسوم ملونة لنقوش ومشاهد إسلامية وعربية ولمشاهد من المقامات، يعتبر أول محاولة جدية قام بها مستشرق لوضع تاريخ الفنون العربية في متناول القارئ العادي، وهذا ما يجعل اسم إتنغهاوزن مرتبطاً حتى يومنا هذا، بشهرة ذلك الكتاب الى درجة يخيل معها للكثيرين انه لم يضع غيره، مع أن لائحة كتبه ودراساته المطولة تضم ما لا يقل عن 220 عنواناً.
> ولد ريتشارد إتنغهاوزن عام 1906 في مدينة فرانكفورت، لكن دراسته الجامعية كانت في ميونيخ ثم في كامبردج بإنكلترا، وكانت دراسات في الفن، لكن ذلك لم يمنعه من أن يجعل موضوع أطروحته للدكتوراه عن «مجابهة الوثنية في القرآن» وهي أطروحة طبعت عام 1934 في فرانكفورت، حيث بالكاد تمكن مؤلفها من أن يحصل على بضع نسخ من المطبعة قبل هجرته. وعند أواخر العشرينات وبداية الثلاثينات انصرف إتنغهاوزن لتقوية لغته العربية ولدراسة كل ما يمت الى الفنون الإسلامية بصلة. غير أن مؤلفاته الكبرى في هذا المجال لم تصدر إلا بعد هجرته الى الولايات المتحدة حين عمل بين 1934 و1937 مساعداً في المعهد الأميركي للفن والآثار الفارسية، وبعد ذلك صار استاذاً للفن الإسلامي في جامعة ميشيغان، ثم صار خبير متاحف في مجال فنون الشرق الأدنى في واشنطن وغيرها، قبل أن ينصرف لتدريس الفنون الجميلة في جامعة نيويورك… وكان العمل في نيويورك قبل ذلك حلماً من أحلامه، حيث مكنه من أن ينصرف وهو في نيويورك لرعاية مجموعة الفنون الإسلامية الغنية الموجودة في متحف «متروبوليتان»، أحد أشهر وأهم متاحف العالم.
> خلال ذلك كله لم يكف إتنغهاوزن عن الكتابة، دراسات في المجلات والدوريات المتخصصة، ومؤلفات حول العديد من مواضيع الفنون الإسلامية، وكان صدور كل عمل له من هذا النوع يعتبر حدثاً، إذ يقال اليوم أن مساهمة إتنغهاوزن في التعريف بالفنون الإسلامية وإثارة الاهتمام من حولها لا تضاهى. أما أشهر مؤلفات الباحث في هذه المجالات، فيأتي في مقدمها كتابه «من بيزنطة الى إيران الساسانية والعالم الإسلامي: ثلاثة أشكال من التأثير الفني» وفيه انصرف الى دراسة فنون العمارة والزخارف والنقوش والخزفيات والسجاد والمنسوجات وصناعة الزجاج والتعدين. واهتم إتنغهاوزن بخاصة بدراسة «سير أساطين الرسامين الفرس والمغول» وفق ما تكتب الباحثة دورويثا دودا التي أرخت لحياة الباحث، وتضيف: «ومن أعماله المهمة ايضاً دراساته حول رسوم الكتب الفارسية المبكرة قبل التيموريين، وحول رسوم الكتب الهندية الاسلامية قبل المغول…».
> إضافة الى هذا كله كان إتنغهاوزن عضواً في العديد من الجمعيات الأميركية المهمة المعنية بتاريخ الفنون والآثار، الى جانب عضويته في «معهد مصر» وعضويته الفخرية في معهد الآثار الألماني. بقي أن نذكر أن من بين أهم الأعمال والدراسات التي صدرت لريتشارد إتنغهاوزن، إضافة الى ما ذكر أعلاه، «النقوش العربية: دراسة حول المضمون الرمزي في منمنمات الشرق الأدنى»، و «نتاج الانسان: الفن وفن العمارة في الإسلام»، و «الخط الكوفي في اليونان البيزنطية» و «الأصالة والتقليد في الإسلام الكلاسيكي». ولقد رحل ريتشارد إتنغهاوزن عن عالمنا في العام 1979 عن ثلاثة وسبعين عاماً قضى معظمها في خدمة التأريخ للفنون العربية والإسلامية.