قضايا ودراسات

لكل كتاب خط ومخطوط

صناعة كتاب باليد من الغلاف إلى الغلاف هو عمل أدبي، وعمل فني في الوقت نفسه، وهي مبادرة الكاتب المصري ماهر شريف الذي أسس دار نشر في القاهرة باسم «يدوية»، فهو يكتب النص بيده، ثم يجلده، ثم يقفله بالخياطة اليدوية، وكل ذلك عبر مراحل من هذه الصناعة (ورقة ورقة كما يقول)، وبمعنى آخر يعيد ماهر شريف إلينا زمن المخطوط العربي، وزمن نسخ الكتب أو ما يُسمى (الوراقة)، فهو على نحو ما «ورّاق عربي» في زمن أخطبوطية الكمبيوتر الذي يكاد أن يدمر خط اليد ويلغيه من الكتابة والحياة، وأكثر من ذلك نادراً ما ترى كاتباً اليوم يحمل ورقاً وأقلاماً، فالكمبيوتر في المكتب وفي المقهى وفي الحافلة.. والمحظوظ في الزمن الكمبيوتري البارد هذا هو الكاتب ذو الخط الرديء، وقد جاءت الطباعة الكمبيوترية لتغطي على عاهات مئات الكتاب الذين كانوا يكتبون بخطوط بالغة الرداءة.. كنا نطلق عليها خط النمل لشدة رداءة رسمه وتعرجاته وزواياه.. خط سيّئ بلا مرونة وبلا حياة جاء الكمبيوتر لكي يستر بشاعته.

دار النشر القاهرية «يدوية» تعيد الاعتبار أيضاً إلى جماليات النشر بخط اليد، كما تعيد الاعتبار إلى النسّاخين والمجلِّدين الذين كانوا يصنعون كتباً هي في الواقع تحف فنية؛ حيث غلاف الكتاب ليس مجرد غلاف، بل هو لوحة أو عمل فني.
في الوقت الذي كنت أقرأ فيه حول دار النشر اليدوية هذه، كنت أقرأ أيضاً مقطعاً جميلاً من رواية «موت صغير» يعيدك إلى عصر نسخ الكتب وتحميلها على ظهور الدواب لتوزيعها في الأمصار والأقاليم.. «..انتهيت من كتابة الكتاب في تسعة أيام -والسارد هنا هو ابن عربي بلسان الروائي محمد حسن علوان- لم أخرج فيها من حجرتي قط.
قطعت الدروس وعكفت على الكتابة، ولما انتهيت أوصيت بدراً أن يؤجر جماعة من النسّاخين بالخط المكي والمغربي والمصري والشامي، فجاء بالأربعة إلى الخانقاه فأفرغت لهم حجرة واسعة، ووضعت بين أيديهم رزماً من الأوراق الجيدة والأحبار الثمينة، وأوعزت إلى كل منهم أن ينسخ من الكتاب خمس نسخ، وفور انتهائهم منها حمل بدر النسخ كلها على خرجين ثقيلين، وخرج ببغلته إلى منطلق القوافل..».
ذلك الزمن كان زمن الكتابة باليد، لا زمن الطباعة بالكمبيوتر. كان المهم هو جودة الورق وجودة الحبر والقلم.. وكلها من «جودة العقل».
كان وقتاً للكتابة قبل اختراع الطباعة، وكان المؤلف يعرق جبينه وهو يكتب وينسخ ويخط ويخيّط إلى أن يصنع كتاباً.
بالطبع، الكمبيوتر مهم، ولا تعني هذه الكلمات العودة إلى دارة الجاحظ أو الجمحي أو ابن عربي، بل العودة إلى روح الكتاب الذي كان المأمون يزنه بالذهب.. وأكثر من ذلك كان يُجلس مؤلِّفه إلى يمينه..
يقال: لكل زمان دولة ورجال.. وأيضاً لكل كتاب خط ومخطوط.
يوسف أبولوز
y.abulouz@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى