مقالات عامة

مذكرات محمد داودية

يوسف أبو لوز

قرأت بشغف وخصوصية إصغائية حلقات السيرة الروائية «مذكرات معلم» للوزير السابق، وسفير المملكة الأردنية الهاشمية في المغرب سابقاً محمد داودية التي نشرها في جريدة الدستور الأردنية خلال الشهرين الماضيين بانسيابية سردية معمرة بالصدق والشجاعة أيضاً.. الشجاعة على ذكر تفاصيل أيام صعبة وقاسية أمضاها محمد داودية في سلك التعليم في قرى الأردن وبواديه، والتعليم من أشرف الوظائف وأكثرها وطنية، وإذا توفر لهذا العمل الحضاري الذي تقوم عليه دول بل إمبراطوريات رجال نبلاء يصونون التعليم بأخلاقياتهم الرفيعة وأرواحهم المنتمية لأوطانهم.. فإن هذه الأوطان ترفع شأنها وشأن شعوبها بمثل هؤلاء الرجال ومحمد داودية واحد منهم.
أعادنا «أبو عمر» بقلمه الصحفي الجاذب، ولغته القريبة من القلب أو من القلب إلى يوميات الحياة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي حين كانت الحياة عفوية وطيبة مثل مروج القمح وسنابل الذرة الخضراء وبهجات عباد الشمس تحت أقواس قزح يعرفها القرويون والريفيون جيداً، فيتحولون معها إلى شعراء أو رواة أو رسامين.
نعم.. من قلب ما هو زراعي وريفي يخرج الفن الراقي، وتخرج الكتابة النظيفة، ومحمد داودية لمن لا يعرفه جيداً هو كاتب قصة قصيرة قبل العمل الحكومي الرسمي والصحفي، ولمع اسمه أولاً في جريدة الأخبار الأردنية التي كانت تصدر في وادي صقرة في العاصمة عمّان في نهاية سبعينات القرن العشرين، وسوف يظهر اسم كاتب هذه السطور للمرة الأولى مع صورة في إحدى الزوايا الأسبوعية التي كانت تخصصها الصحيفة للكتاب الشباب الجدد، لكن الأهم من ذلك، أن محمد داودية في هذه المذكرات قال للجيل الشاب الآن في الأردن وفي أي بلد عربي إن جيل الستينات لم يكن يتوفر له على الإطلاق ما يتوفر اليوم لشباب وشابات هذا الزمن المحشو كله في ثقافة الحداثة وآلياتها اليومية من الموبايل إلى الكمبيوتر وإلى ما هو أكثر سهولة.
يكشف محمد داودية في هذه المذكرات أنه كان يعجن ويخبز ويطبخ ويصيد ويغسل ويكوي.. وكانت أمهاتنا أيضاً في تلك الفترة وقبلها حصادات وحطابات ويجلبن الماء من عيون موسى أسفل جبل نيبو غربي مادبا على رؤوسهن.
أبناء ذلك الجيل وما تلاه قليلاً من سنوات = وأنا واحد منهم = كانوا يحرثون على الدواب، ويحصدون بالمناجل، ويدرسون على الدواب أيضاً ويعرفون كيف يرفعون الشواعيب والمذاري لمراوح الهواء النقي في حقول «كفير الوخيان» التي تحول اسمها إلى الفيصلية، ويكرمون الضيف، ويشبّون النار وهم أطفال.
سردية محمد داودية، سردية الرجولة والعصامية والاعتماد على «الذراع» في زمن رغم قسوته كان جميلاً، ولأنه كان زمناً قاسياً فقد أنجب رجالاً.. أنجبوا بدورهم رجالاً.
إن طباعة هذه المذكرات طباعة شعبية على ورق الصحف فكرة عملية تماماً، كي يتاح للجيل الشاب وجيل الرواد والآباء النبلاء قراءة بأكثر من مستوى: للتاريخ، وللذاكرة، وللحياة، وللكتابة نفسها، فهذه المذكرات أعادت قصصياً قديماً إلى الكتابة التي هي سحر وشغف.. ونبل أيضاً.

yabolouz@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى