آلة النهب.. أسياد الحرب وسرقة ثروات إفريقيا
تأليف: توم بورغيس – عرض وترجمة: نضال إبراهيم
تعاني القارة السمراء حروباً وأزمات وصراعات عرقية ودينية مستمرة، يعتقد البعض أن السبب هو شعوب تتناحر فيما بينها، إلا أن الصحفي توم بورغيس من خلال تعمقه في دهاليز السلطة والحكم والفساد في عدد من الدول الإفريقية، يبين أن الثروات الطبيعية العظيمة لإفريقيا أصبحت لعنتها، وتسعى إليها أيادٍ خفية من دول استعمارية، تمنهج الأزمات والنزاعات، وتفرض حياة مريرة على أولئك الذين يعيشون في ظل تلك اللعنة. ويوضح كيف أن أسياد الحروب من النخبة الفاسدة في القارة سخروا كنوز إفريقيا لخدمة القمع ووأد الديمقراطية، في تواطؤ مع الشركات متعددة الجنسيات وكبار رجال الأعمال من الشرق والغرب.
يتألف الكتاب من عشرة أقسام، يتوقف المؤلف في كل فصل على عدد من المشاهد والمواقف التي مرت معه في الدول الإفريقية التي عمل فيها مراسلاً، ويقدم عن قرب مشاهداته عما عاشته مجتمعات من عنف إثني ووحشية على يد أصحاب الامتيازات والنخبة الحاكمة.
يشير الكتاب إلى أن التجارة في النفط والغاز، والأحجار الكريمة والمعادن النادرة، أشاعت الفوضى الكبيرة في إفريقيا، فخلال السنوات التي طوّرت فيها البرازيل والهند والصين وغيرها من «الأسواق الناشئة» اقتصاداتها، ظلت الدول الإفريقية الغنية بالموارد مقيّدة بسلسلة الإمدادات الصناعية، وعانت أزمات سياسية وصراعات عرقية، وفي الوقت الذي تمثل إفريقيا نحو 30 في المئة من احتياطات العالم من النفط والغاز والمعادن، و14 في المئة من سكان العالم، بلغت حصتها من التصنيع العالمي في عام 2011 – كما كانت في عام 2000 – واحداً في المئة.
يعدّ هذا الكتاب الأول للصحفي توم بورغيس وعنوانه الأصلي هو «آلة النهب: أسياد الحرب، الأوليغارشيون والشركات والمهربون، وسرقة ثروات إفريقيا» في 368 صفحة من القطع المتوسط، يحاول فيه أن يكشف حقيقة معجزة التنمية الإفريقية، خاصة فيما يتعلق بالدول التي توجد بها موارد، وكيف أن ودائع النفط والنحاس والألماس والذهب والكولتان جذبت شبكة عالمية من التجار والمصرفيين، والشركات الاستثمارية التي تتعاون مع عصبة سياسية من المرتشين لنهب ثروات وخيرات هذه الدول. كما أن تقلبات الاقتصادات المعتمدة على الموارد يمكن أن تعيد الطبقة الوسطى الجديدة في إفريقيا مرة أخرى إلى العوز بطريقة أسرع مما صعدت. ويصف الكاتب ذلك بأن «الأرض تحت أقدامهم غير مستقرة مثل منجم كونغولي، فالازدهار يمكن أن يضيع كما لو أنه نفط خام يتسرب من خط أنابيب مثقوب».
لعنة الموارد
يوضح الكاتب أن التفكك الاجتماعي الكارثي في إفريقيا ليس مجرد استمرار لماضي إفريقيا كضحية استعمارية، مبيناً أن النهب الآن يجري بوتيرة متسارعة كما لم يحدث من قبل. ومع تزايد الطلب العالمي على موارد إفريقيا، تصبح مجموعة من الأفارقة غنية بطريقة مشروعة، إلا أن الأغلبية العظمى، مثل القارة ككل، تعاني الفقر، بسبب السلب والنهب. ويقول: «يعتقد العالم الخارجي أن إفريقيا تشكل أكبر مصبّ للأعمال الخيرية، ولكن بالنظر عن قرب في صناعة الموارد، والعلاقة بين إفريقيا وبقية العالم يبدو الأمر مختلفاً إلى حد ما. في عام 2010، بلغت صادرات الوقود والمعادن من إفريقيا 333 مليار دولار، أكثر من سبعة أضعاف قيمة المساعدات التي ذهبت في الاتجاه المعاكس. ولكن من حصل على المال؟ مقابل كل امرأة فرنسية تفقد حياتها أثناء الولادة، تموت 100 امرأة في النيجر وحدها، المستعمرة الفرنسية السابقة، التي يغذي اليورانيوم الموجود في أرضها المفاعلات النووية الفرنسية».
ويضيف: «في دول نفطية مثل أنغولا ثلاثة أرباع الإيرادات الحكومية تأتي من النفط، ولا يتم تمويل الحكومة من قبل الشعب، ونتيجة لذلك لا تدين بالفضل لهم. ومجموعة من البلدان الإفريقية التي تعتمد اقتصاداتها على الموارد هي دول ريعية، حيث تعمل شعوبها كالعبيد في الأرض. لعنة الموارد لم تتشكل من مجرد بعض الظواهر الاقتصادية المؤسفة، بل هي منتج قوة غامضة. إن ما يحدث في الدول الإفريقية ذات الموارد هو نهب منظم»، ويعلق: «كما للضحايا أسماء، للمستفيدين أيضاً أسماء».
شبكات مشبوهة
يتناول بورغيس قصة أكثر الشبكات غموضاً بإدارة شخص يدعى سام با، وهو وسيط غامض له ارتباطات مشبوهة سياسية واقتصادية في بكين، حيث ساعد في خلق الفرصة لتشكيل رابط قوي بين المسؤولين الصينيين وأكبر موردي النفط لها وهي أنغولا. قام سام با مع عدد من المسؤولين في أنغولا بتأسيس شركة طاقة حكومية، وهي سونانغول الصينية. كما يشير إلى أنه عبر شبكة من الشركات الغامضة المسجلة في هونغ كونغ وضعت «فوتونغو» (وهو لقب يطلق على النخبة في مدينة لواندا) نفسها في آلية خارجية شقت الطريق أمام السلطة السياسية في إمبراطورية الشركات الخاصة التي كان سام با وأصدقاؤه من مؤسسي مجموعة «غوينسوي»، قد بدؤوا بالتجمع.
ويشير إلى أن سام با أجرى صفقات في إفريقيا مع حاكمين كانا بحاجة ماسة إلى أموال نقدية لقمع المعارضة ضد حكمهما، وهما زعيم الانقلاب في غينيا النقيب موسى داديس كامارا، والثاني هو روبرت موغابي رئيس زيمبابوي، ويوضح أن المشروع المشترك لسام با مع المخابرات السرية لزيمبابوي، والذي قدم من خلاله أموالاً نقدية لهم، هو عملية طرد العمال من منجم ألماس خام، وتحويله إلى مغزل كبير لأموال الحكومة، وذلك لدعم الحملات الانتخابية.
ويتوقف بورغيس عند منتجين بارزين في القارة قاما بمأسسة عملية النهب من خلال شركتي الطاقة الحكومية، وهما شركة النفط الوطنية النيجيرية، ونظيرتها الأكثر كفاءة في أنغولا، سونانغول، مع تعاون من الشركات الغربية، حيث يكشف مع الأدلة أن سونانغول رخصت حقلاً نفطياً ضخماً لشركة محلية مملوكة من قبل أحد كبار التنفيذيين في الدولة وهو، مانويل فيسنتي، واثنين من كبار ضباط الجيش. وهذان الضابطان اعترفا قائلين إن هذه هي الطريقة التي تنجز بها الأعمال في أنغولا. وسبق أن نشر المؤلف في صحيفةفاينانشال تايمزمقابلة مع فيسنتي، مع صورة يبتسم فيها مع الأسلحة الموجودة من حوله، ويشغل الآن منصب نائب رئيس البلاد. ويقول معلقاً: «قضايا فساد بارزة أخرى تبقى بعيدة عن المحاسبة. في أغسطس/ آب 2015، أعلنت شركة كوبالت الدولية للطاقة أنها كانت تبيع حصصها في النفط الأنغولي الخارجي إلى سونانغول. ووافقت سونانغول على أن تدفع لكوبالت 1.8 مليار دولار من أموال الأنغوليين لأجل الحصص». ويضيف: «أسقطت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية تحقيقها المدني في تعاملات كوبالت الأنغولية، لكن هذه التهمة الجنائية لا تزال مستمرة في وزارة العدل. على الرغم من أن ثلاثة من أكثر الرجال النافذين في أنغولا اعترفوا في الكتابة إليّ أنهم امتلكوا حصصاً سرية في مشروع النفط الخارجي لكوبالت، إلا أنه لم يتهم أي واحد منهم بالفساد. وتستمر كوبالت بإنكار هذه التجاوزات، وتقول إنها لم تكن تعرف عن الحصص السرية للمسؤولين».
تقلّص المؤسسات الديمقراطية
يشير بورغيس أيضاً إلى أنه «في أمكنة أخرى من إفريقيا تجد أن المؤسسات الديمقراطية الهشة تتقلص. ففي الكونغو، كانت المحاولات الواضحة لرئيسها جوزيف كابيلا لتوسيع حكمه ما وراء الحدود الدستورية، لأجل وضع مخطط زمني لإطلاق انتخابات. إنه جزء من النزعة المتنامية بين الدول الإفريقية، حيث آلة النهب تعمل فيها، حكّام مثل كابيلا، وحكّام بوروندي وراواندا، إما تجاهلوا الحدود المصممة لمنع الدكتاتورية أو يبدو أنهم يحاولون أن يفعلوا ذلك». ويضيف: «كما السابق، القليل أسقطوا الاتصال بين الاضطرابات السياسية في هذه البلدان والصناعات العالمية التي تغذت على مواردهم الطبيعية».
ويقول إن «للفساد وغسل الأموال طريقة في التطور، ومن دون شك سوف تشق طريقها مرة أخرى، إلا أنه ما من سبب في عدم المحاولة للقضاء على كل تحوّل. ربما، مع ذلك، ازدهار صناعة التعدين والنفط يولد فساداً أكثر من أي وقت آخر في الاقتصاد العالمي، وهذا الفساد في طريقه إلى الانخفاض، ليس لأن هذه الصناعة تصبح أنظف، بل لأنها تتضاءل». ويشير كذلك إلى أن هؤلاء الذين يتحكمون بالنفط والصناعات المعدنية يتحكمون بوصول الفاسدين إلى الاقتصاد العالمي. والانخفاض في أسعار البضائع دفع حكام هذه الدول الإفريقية ذات الموارد إلى تخفيض الإنفاق على الخدمات العامة. لكن حينما جاء الأمر إلى استدامة حكمهم، جعلت الظروف الصعبة تزيد من عزمهم. ويقف عند أشكال التهم الموجهة للمعارضين وناشطي حقوق الإنسان في أنغولا، مستشهداً بأحد الناشطين، وهو مغني راب يدعى لواتي بيراو لم تتم محاكمته، فأعلن الإضراب عن الطعام 36 يوماً، وفي النهاية وجّهت له الدولة تهماً تتعلق بالاشتراك في مؤامرة للإطاحة بالرئيس. وجريمتهم الفعلية كانت الحضور ضمن مجموعة لقراءة كتاب سياسي ولدراسة نصّ محدّد، كان دليلاً عن المقاومة السلمية كتبه المفكر السياسي الأمريكي جين شارب بعنوان «من الدكتاتورية إلى الديمقراطية».
ويحلل الكاتب أيضاً في «آلة النهب» فشل برنامج «التمكين الاقتصادي الأسود» (BEE) في جنوب إفريقيا، فيما يتعلق بالسياسات الرئيسية لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي لإعادة توزيع ثروة البلاد تحت حكم الأغلبية. وقد وفّر برنامج «التمكين الاقتصادي الأسود» الملايين في الصفوف العليا من حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الذين قايضوا سجلات التحرير للحصول على مقعد في مجلس إدارة شركات يسيطر عليها البيض، لكنها تركت الكثير من أتباعها السود بخيبة أمل. وأدى الاضطراب الصناعي الناشئ إلى مذبحة للعمال من قبل الشرطة في منجم البلاتين التابع لشركة لونمين في ماريكانا بجنوب إفريقيا، ما ساهم في كشف فساد النخبة الرأسمالية.
يتوقف الكاتب أيضاً عند تقرير للبنك الدولي على انعدام التنمية بسبب سياسة مؤسسات «بريتون وودز» لتحرير صناعة التعدين في إفريقيا. ويستشهد بقول لمصرفي في غانا: «الناس يتساءلون: كيف لبلد توجد فيه صناعة التعدين منذ مئة سنة ولا يستفيد منها السكان شيئاً»، ويوضع هذا الأمر في منظور تاريخي يوضح النهب المعاصر الذي يحدث، مشيراً إلى أنه في عالم اليوم يستفيد الجميع من الثروات الطبيعية في إفريقيا، إلا شعبها، مؤكداً أن هذا يدل على «أننا جميعاً متواطئون بشكل أو بآخر»، في إشارة إلى النخبة والحكومات الغربية ودورها المخفي في أزمات إفريقيا السياسية والاقتصادية، ودعمها للانقلابات، وتزويد أسياد الحروب بالمال والأسلحة لخلق النزاعات العرقية والدينية التي راح ضحيتها الملايين. تأتي قوة هذا الكتاب في أنه يجمع بين سرد متماسك في سياق تحليلي للقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية على نحو مدروس، مع توضيح كيف أن عملية تدفق رأس المال تسير بطريقة مدبرة من قبل الشركات متعددة الجنسيات، عبر ممارسات اقتصادية واتفاقات سياسية مشبوهة في الغالب.
نبذة عن المؤلف
صحفي وكاتب سياسي واقتصادي، قام بتغطية أبرز الأحداث في إفريقيا منذ عام 2006، وغالباً لمصلحة صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية في مقرها لأول مرة في جوهانسبرغ ثم في لاغوس. وكتب تقارير عن الانقلابات والصراعات السياسية والإثنية من مدغشقر إلى غينيا، والحروب على النفط والوقود والصناعات المعدنية من شرق الكونغو لدلتا النيجر. ورصد في تقاريره العديد من التفاصيل المؤلمة في إفريقيا، إلى درجة أنه قد نزل إلى أعمق منجم في العالم في جنوب إفريقيا، ودخل حقول الألماس في زيمبابوي. ويعمل حالياً مراسل تحقيقات صحفية في «فاينانشال تايمز» بمقرها في لندن. وقد فاز بورغيس على تحقيقاته الصحفية بالعديد من الجوائز، من بينها جائزة «جمعية الناشرين في آسيا»، ووصل إلى القائمة القصيرة للمرشحين لنيل جائزة الصحافة الأوروبية، وجائزة الصحافة البريطانية.