مقالات سياسية

أزمة فرنسا مع المسلمين وأزمة المسلمين مع فرنسا!

علي حماده

عشت ما يقارب عقارب العقدين في فرنسا، متلقيا التعليم من الصفوف الثانوية و الجامعية. عشت مبعداً من لبنان بسبب الحرب الاهلية، وكانت مرحلة اتسمت بحروب الاستخبارات على أرض فرنسا، تفجيراً، واغتيالاً، واغلبها لحساب أنظمة عربية و إسلامية (ايران)، كما شهدت عمليات تفجير عدة على خلفية الصراع العربي – الإسرائيلي. في كل المرحلة التي امتدت على مدى الثمانينات و التسعينات من القرن الماضي، كانت الشرائح الفرنسية المسلمة، و هي المتحدرة في غالبيتها من المهاجرين المغاربيين، الذين كانوا ينتمون الى دول المغرب العربي المستعمرة من فرنسا، تعيش بهدوء وسكينة ضواحي المدن الفرنسية الكبيرة، و لا سيما المدن الصناعية التي احتاجت في مرحلة نهوض الاقتصاد الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية في خمسينات وستينات القرن الماضي الى يد عاملة قادرة على العيش بسهولة في فرنسا، و التأقلم مع الفرنسيين المستعمَرين السابقين! تزايدت أعداد الوافدين بشكل كبير على مر العقود، و قد احتاجتهم الصناعات الثقيلة في فرنسا، وانتقلت مع العمال عائلاتهم، أو أسسوا عائلات في أماكن عملهم، و مع الوقت حصل هؤلاء و عائلاتهم على الجنسية الفرنسية، و كاثرت أعدادهم لكي تتجاوز الستة إلى الثمانية ملايين مهاجر مسلم معظمهم من أصول مغاربية، سكنوا فرنسا، و حصلوا على الجنسية الفرنسية، و ارتاد أولادهم المدارس العلمانية الفرنسية، وصاروا، بالرغم من كونهم أقليات موزعة على المدن الكبرى، اكثريات في عدد من الاحياء، و لا سيما في الضواحي، بحيث أن زائر تلك الاحياء كان يحسب، و لا يزال، نفسه في احدى مدن الجزائر، أو المغرب أو تونس .

تشكلت الشرائح المشار اليها، و تجذرت في الحياة الاقتصادية الفرنسية ، وتمكن العديد من أبناء العمال المهاجرين من الارتقاء اجتماعياً، على الرغم من أنهم كانوا يشعرون على الدوام انهم مستثنون من “فرنسا العميقة”، أو مقيمون على هامش المجتمع الفرنسي التلقيدي. كان الشعور هذا وقوداً معرضاً للاشتعال على الدوام في الاحياء ذات الغلبية من أبناء المهاجرين، وإن كانوا، على العكس من ابآهم و أمهاتهم، ولدوا على ارض فرنسا، و عاشوا ثقافتها منذ الولادة، مع فارق أساسي ميزهم عن مهاجرين من بلدان أخرى مثل إيطاليا، وحتى من المغرب العربي انما من اليهود الذين جرت تسميتهم في تلك الأيام ب “الارجل السود” و قد غادر قسم كبير منهم الجزائر سنة ١٩٦٢ بعد الاستقلال، و استقروا في فرنسا لكنهم، و على العكس من أقرانهم من مسلمي المستعمرات السابقة تمكنوا من التأقلم اكثر مع المجتمع الفرنسي، و فتحت أمامهم الأبواب بسهولة أكبر، و منحوا فرصاً لم تمنح لأبناء المهاجرين المسلمين، سمحت لهم بالانخراط في الحياة الثقافية، والاقتصادية، و المالية، و في مواقع أساسية من الدولة، حتى استطاع يهود فرنسا الذين ما تجاوزوا الستمائة ألف شخص من امتلاك نفوذ تجاوز عددهم بأشواط، مقارنة مع ملايين المسلمين الذي بقوا على هامش الحياة الفرنسية بمختلف مستوياتها.

صحيح أن العديد من أبناء المهاجرين المسلمين استطاعوا اختراق الحواجز، و الارتقاء اجتماعياً، و اقتصادياً، و سياسياً في فرنسا، و لكن الامر ظل محدوداً مقارنة بثقلهم العددي، و ربما لأنهم ووجهوا بشكل او بآخر بتمييز ضمني في المجتمع، و الإدارات الرسمية، و المؤسسات الخاصة، الامر الذي يمكن الجزم أنه أدى، في ما أدى، إلى نشوء إحساس بالمظلومية بين أبناء الشريحة المسلمة في فرنسا. و هؤلاء ربما فشلوا في الانصهار بالمجتمع الفرنسي، والتقيد بقيم الجمهورية العلمانية، فتحوّل عدد منهم الى ضحايا و أدوات بيد الحركات الأصولية التي جندت اعداداً منهم في بعض الجمعيات و المساجد للقيام بعمليات إرهابية مستغلة حالة تلك الظلامة التي تولدت من فشل عملية الانصهار في المجتمع الفرنسي.
وقد عزا مفكرون فرنسيون هذا الفشل الى تضافر عاملين :

الأول لامبالاة من الإدارات الفرنسية المتعاقبة، و رفضها النظر اليهم على أنهم فرنسيون أسوة ببقية الفرنسيين، وفي المقابل عجز المسلمون عن تنظيم أنفسهم و الاندفاع نحو الانخراط الطوعي في المجتمع لأخذ أمكنتهم الطبيعية كجزء من الشعب الفرنسي المركب بعد الحرب العالمية الثانية. كل هذا أدى الى نشوء مجتمع مواز في فرنسا، كان يمكن منع نشوئه لو تمت معالجة الامر منذ البدايات. و لكن الواقع الحالي يشير الى أن ثمة أزمة عميقة في فرنسا، مردها هذا الصدام الثقافي المستمر بين الفرنسيين المنخرطين في النظام الجمهوري العلماني، و المسلمين الذين تقوقعوا لتصير شريحة كبيرة منهم مجتمعاً على هامش الجمهورية و قيمها. والسؤال اليوم ما عاد يتعلق بتحديد المسوؤليات عما حدث لكي تصل الأمور الى هذا الشرخ الذي تفجر بقوة في الأيام القليلة الماضية على خلفية ذبح المدرس الفرنسي صموئيل باتي من قبل شاب من أصول غير عربية (شيشاني) ، و لكن ما حصل أعاد الى الذاكرة مجزرة شارلي ايبدو (رسوم الكاريكاتور المسيئة للرسول الكريم) ، و عملية “مقهى الباتاكلان”، و عملية نيس حيث جرى دهس عشرات الأشخاص يوم العيد الوطني الفرنسي، بل صارت السؤال كيف يمكن إيجاد حلول واقعية توقف هذا الانزلاق الخطير نحو الأسوأ بعدما استعر النقاش و السجال حول الانقسام الخطير في المجتمع الفرنسي. و قد عُدّ خطاب الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي تناول فيه مقولة “المجتمع الموازي” الذي يمثله حسب ايماءاته مسلمو فرنسا بمثابة تأكيد لعمق الازمة . لقد أعادت عملية ذبح المدرس الفرنسي طرح قضية فشل الجمهورية في إتمام انصهار المسلمين في الدولة العلمانية، كما طرحت أزمة مسلمي فرنسا الثقافية في دول أوروبا عموماً، وفي المقابل، أظهرت حدود قدرة الجمهورية الفرنسية بمؤسساتها العلمانية على هضم الشريحة المسلمة على قاعدة العلمانية الصارمة. إنها أزمة عميقة، و هي مرشحة لأن تزداد تعقيداً، بسبب تنامي الراديكاليات المتقابلة على أرض فرنسا . لذلك نقول ان فرنسا العميقة في أزمة مع مسلميها، ومسلموها في أزمة معها .

* نقلا عن “النهار”

زر الذهاب إلى الأعلى