قضايا ودراسات

أسئلة التعب في الفضاء

د. نسيم خوري

سألت إلهام سعيد فريحة على صفحة «الأنوار» الأخيرة: من الورق إلى «الأون لاين» ماذا بعد؟ ويسأل التعب نفسه: هل من نهاية؟
تعيدنا أسئلة التعب سيّدتي حول النهاية مجدداً إلى مقام الفلسفة في بلاد الإغريق، كنّا نعدها مالكة عرش العلوم، وقد حشرتها علوم الصحافة والإعلام، وصدّقنا أنفسنا؛ عندما قلنا إن الفلسفة سقطت تحت جلالة الكتابات الصحفية. ماتت لغة سقراط وأرسطو وأفلاطون على يدّ باباندريو، وسقطت قباب أثينا وأعمدتها؛ لردم الطرق البريّة للروّاد السائحين نحو جزرها السياحية النائية. ويسقط لبنان بين أيدي أبنائه تقليداً لأثينا.
أمّا الخروج من الورق إلى «الأون لاين» فسوق يتماهى فيه صغار المحررين والمصححين المسجّلين أجراء في قانون العمل اليوم، بأصحاب الصحف ورؤساء التحرير، الذين تماهوا بالملوك والسلاطين والأمراء.
كيف؟ يؤسسون صحفهم ومواقعهم ويلعبون الأدوار، التي حلموا بها في الصحف المكتوبة.
تنقل النصوص المختصرة مزدانة بالصور والرسائل الصوتية؛ بهدف التزاحم؛ لخلق نوعٍ من التفاعل الوهمي مع المبحرين أو المشتركين بها.
كانت «النيويورك تايمز» الصحيفة الأولى التي قامت بنقل طبعتها إلكترونياً في العالم، وكانت «النهار» السبّاقة في لبنان في الطلوع على الإنترنت وفقاً لهذه الطريقة، وتبعتها صحف لبنانية أخرى؛ لكن الهزال يعتريها كلها. الكاتب والقارئ معاً في فضاء من الكتابة بلا حدود وشروط. ويعد انقلاب السلطات أو تبادلها من الأدوار، التي تلعبها الصحافة الإلكترونية؛ إذ يغدو المتلقي «ساكناً» يتعامل مع الطبعة الإعلامية، وكأنّها وسيلته الخاصة (هذا إن لم يكن له وسيلته الخاصة بعد) تمنحه سلطات يستطيع أن يمارسها عن طريق اشتراكه بالتحرير أو بالانتقاد، أي يصبح فاعلاً ومنفعلاً ومرسلاً جديداً يقلق المرسل الأساسي، ويكمّله أو يدحضه، وهذا ما يمنح البريد الإلكتروني، كما نشهد في هذا العصر، إقبالاً أو سلطة عالميّة.
تتحلّى الصحافة الإلكترونية، إلى جانب توفيرها المعلومات الجاهزة «الموضّبة»، ووصولها إلى العدد الأكبر من القرّاء، بالسرعة في البث.
وبسبب من هذه السرعة، التي تنجز إلكترونية الأخبار، مهما علت حواجز اللغة والممنوعات الثقافية، فإنّها صفة تنسف مجمل ما ألفناه في الوسائل التقليديّة الخبريّة، كما تلتصق بمضامين الأخبار، التي تعمّم فتنجز أوسع ثورة في تاريخ الخبر.
أعطيك مثالاً:
جاءت فضيحة العلاقة، مثلاً، بين الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون والمتدرّبة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي؛ لتحدث هزّةً سياسيّة كبرى في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي العالم، وتحقق مدى قدرات الخبر الضوئي السريع. فخلال شهر فبراير/‏شباط عام 1997، قامت صحيفة «Le Drudge report» على الإنترنت؛ وهي جريدة إلكترونية، بنشر تفاصيل هذه العلاقة في الوقت، الذي كانت فيه صحيفة مرموقة وذائعة الصيت؛ مثل «نيوزويك» صاحبة السبق الصحفي تاريخياً تتأكد وتتوثق من مصادر خبرها، وتستقي المعلومات الوافية قبل نشرها. وبهذا كسرت الصحيفة الضوئية قواعد اللعبة التقليديّة المعهودة في الصحافة.
التحدّي المطروح الآن يتعلّق بسلطات هذا الخبر الضوئي السريع: كيف نوفق بين التدقيق في مصادر المعلومات ومصداقيتها وتحقيق السرعة الضوئيّة في البث؟
بالطبع على حساب اللغة والمضمون؛ إذ تتضاعف الخطورة، ونعاين نوعاً من التساهل الفاضح في مقتضيات النشر، وهو تساهل ملموس في اللغة البرقية الركيكة تحت وطأة البث السريع. لا تعود المعلومات المعروضة على الشاشة كلّها صحيحة، ولا مصداقية ثابتة لتفاصيلها، أو هي بحاجةٍ إلى تدقيق كبير.
هكذا تلتحق صفة الخطورة بصفات العشوائية والمشاعية والصدفة، وتشكّل مجتمعةً سمات المعلومة أو الخبر الضوئي المعاصر. وتكون النتيجة دفق الشائعات، وتلويث المعلومات وقتل اللغة؛ لأنّ الصحافة وقعت في سباق حافل بالتشوّهات مع الزمن.
نفهم، بهذا، أسباب الأهمية التي لا تزال تكابر بها صحف لا مواقع لها على الشاشة، يتوخى أصحابها بذلك الحفاظ على قرّائها ومشتركيها وسلطاتها غير عابئين بالسرعة، ويضعونها في مراتب عالميّة مرجعية، رافضين، أساساً، بثّ أي مضمون من مضامينها على الإنترنت قبل صدورها.
إنّها الصحافة الباحثة في العمق أبداً عن مدى صحة المعلومات وتصويبها.

زر الذهاب إلى الأعلى