قضايا ودراسات

أفكار لم تتم

د. حسن مدن

في جعبة أي كاتب، إذا كان على درجة كافية من الرصانة والتأني، توجد مخطوطات أولية غير مكتملة، وملاحظات وأفكار مبعثرة خطرت في ذهنه في لحظات من الصفاء أو التجلي، أو استعادها من تجارب مرت به في حياته، أو ذكريات استيقظت فجأة فعاجل بتدوينها قبل أن تفلت من يديه وتهجع إلى النوم ثانية.
وقد تكون هذه الأفكار حصيلة قراءات أو مشاهدات أو استماع لمحاضرات أو برامج في التلفاز أو الإذاعة ألهمته، أو غذّت لديه تصوراً، أو لفتت نظره إلى أمور كان قد غفل عنها، أو أنه ببساطة شديدة لم يكن يعرفها أو يسمع بها من قبل، فدّون عنها ملاحظات قد تفيده يوماً في مشروع كتابي قادم أو مؤجل.
الكاتب إذ يفعل ذلك، أي أن يقوم بما يشبه «التخزين» لتلك الملاحظات والأفكار في مكانٍ ما، في ملف على الحاسوب مثلاً، أو في كراس يحتفظ بها لهذه الغاية، فذلك لأنه يضمر بينه وبين نفسه أنه عائد لها يوماً بغية توظيفها في مشروع من تلك المشاريع القادمة أو المؤجلة.
قلنا مرة إن مسودة الكتاب أو الدراسة أو حتى المقال أقرب إلى النص غير المترابط، إنها أشبه بالتدريب الأولي على كتابة ما ينوي الكاتب كتابته وتقديمه للآخرين، أقرب إلى «الاسكتش» الذي يضعه الفنان التشكيلي للوحته.
لكن «الأفكار التي لم تتم» ليست بالضرورة هي نفسها المسودات، فقد تكون أقل من ذلك، مجرد أفكار مبعثرة، وربما متناقضة، وقد لا يبدو أنه يجمع بينها جامع، لكن الكاتب إذ دوّنها فإن في نيته إعادة بنائها في نسق أو سياق، وإن بدت متناقضة فمرُد ذلك أن الكاتب بصدد تكوين استنتاج نهائي حول ما يشغل باله، حين يعقد المقارنات بين الأفكار ويفاضل فيما بينها، أي إنها تعكس مخاضاً أو سيرورة العمل قبل أن يبلغ نهايته.
أحد أبطال لعبة الشطرنج في العالم قال مرة إنه يعتبر النقلات التي فكر فيها ولكنه لم يقم بها على قطعة الشطرنج جزءاً لا يتجزأ من اللعبة، جزءاً لا يتجزأ من النقلات التي قام بها فعلاً، كأنه يوحي لنا بالقول إن تلك النقلات التي كانت مجرد أفكار في الذهن دون أن تأخذ طريقها للتنفيذ، هي المقدمة التي لا بد منها للنقلات التي نفذت.
حال الكاتب مثل حال لاعب الشطرنج، في علاقته مع أفكاره التي لم تتم، أو التي هي قيد التشكل، ومع أنها قد لا تجد طريقها إلى أعماله في صيغتها النهائية، لكنها تظل جزءاً لا يتجزأ منها، إنها مضمرة فيها، وحاضرة في ثناياها.
madanbahrain@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى