قضايا ودراسات

ألغام في طريق مفاوضات «بريكست»

د. غسان العزي
في يونيو/حزيران من العام الفائت صوّت الشعب البريطاني لمصلحة «البريكست»، أي الخروج من الاتحاد الأوروبي. استقال عندها ديفيد كاميرون من رئاسة الوزراء لتحل محله وزيرة الداخلية تيريزا ماي لقيادة مفاوضات هذا الخروج. وبهدف الاستحواذ على المزيد من الشرعية الشعبية كورقة قوة قبل ولوج هذه المفاوضات قررت ماي إجراء انتخابات تشريعية مبكرة كانت كل التحليلات تتوقع لها الخروج منها بأغلبية ساحقة مريحة تجعلها في مركز قوة تفاوضية، لسببين على الأقل: إن الشعب البريطاني هو الذي قرر الخروج من الاتحاد الأوروبي، وبالتالي من المنطقي أن يعطي لرئيسة الوزراء تفويضاً واضحاً وشرعية شعبية تريحانها في المفاوضات مع سبع وعشرين دولة أوروبية عضوة في الاتحاد.
لكن على خلاف كل التوقعات خسر المحافظون، في انتخابات الثامن من الشهر الماضي، الأغلبية البرلمانية (حصلوا على ٣١٨مقعداً من أصل ٦٥٠ بعد أن كانوا يحتلون ٣٣٠ مقعداً) فاضطروا للتحالف مع «الحزب الديمقراطي الوحدوي» الإيرلندي – الشمالي لتشكيل حكومة بزعامة ماي. هذه النتيجة شكلت صدمة على المستويين السياسي الداخلي، والأوروبي عشية انطلاق مفاوضات البريكست.
أكثر من ذلك، فقد بدأت حكومة ماي الجديدة في أجواء يسودها التشنج على خلفية انقسامات داخلية، وصعود غير متوقع للمعارضة العمالية (وصلت شعبية جيريمي كوربين إلى ٤٦٪)، وتفاوت طبقي واضح، وأزمة سكن وعنف وإرهاب وحريق برج غرينفيل (أكثر من ستين قتيلاً)..الخ. ما جعل القطب السياسي المعروف جورج أوسبورن يصف ماي ب«الجثة السياسية التي تسير على قدمين». في وقت كان ينبغي فيه أن تذهب لندن إلى المفاوضات قوية متماسكة.
من جهة الاتحاد الأوروبي، تبدو الصورة مختلفة تماماً. فانتخاب ايمانويل ماكرون رئيساً لفرنسا، إضافة إلى إعلان انجيلا ميركل ضرورة توقف أوروبا عن الاعتماد على الولايات المتحدة، وإمساكها لمصيرها بيدها، أعطيا زخماً جديداً لاتحاد أوروبي كان يعاني الإحباط. وقد عبرت بروكسل عن عودة «الحلم الأوروبي» بإصدارها ل«كتاب أبيض» طموح يتضمن اقتراحاً بإنشاء صندوق لتمويل الدفاع الأوروبي.
لقد تم تفعيل المادة ٥٠ من معاهدة لشبونة في٢٩ مارس/آذار الماضي، وبعدها بثلاثة أشهر، في ١٩ من الشهر الماضي، أي بعد عام واحد من البريكست انطلقت مفاوضات الطلاق البريطاني-الأوروبي التي ينبغي أن تنتهي مبدئياً بعد سنتين، أي تحديداً في ٢٩ مارس/آذار ٢٠١٩.
ويلج البريطانيون هذه اللحظة التاريخية في حالة ضعف بسبب رهان ماي الخاسر على الانتخابات التشريعية، وتهاوي شعبيتها التي انحدرت إلى ٢٩٪ اليوم، بعد أن وصلت في إبريل/نيسان الماضي إلى مستويات تخطت معها مرغريت تاتشر في أوقات عزها. في المقابل يدخل الأوروبيون هذه المفاوضات بالكثير من القوة والتماسك.
ممثل أوروبا في المفاوضات ميشال بارنييه (مفوض أوروبي سابق ووزير خارجية فرنسا الأسبق)، تقدم بخريطة طريق تتضمن الخطوط العريضة التي اتفق عليها الأوروبيون في ٢٢ مايو/أيار الماضي في بروكسل، يقترحون فيها تحقيب المباحثات: أولاً تعريف مفردات الطلاق، وتفادي الكلام عن «علاقة مستقبلية» بين الطرفين قبل التوصل إلى اتفاق مبادئ حول الانفصال، وعدم عودة الحدود بين إيرلندا-الشمالية وجمهورية إيرلندا، وأن تتكفل لندن بدفع عشرات المليارات من اليورو (هناك تقديرات جد متفاوتة عن الرقم النهائي) المستحقة عليها في إطار ميزانية الاتحاد الأوروبي.
الوزير البريطاني المولج بالتفاوض ديفيد دافيس، أعلن أنه «إذا كانت الطريق طويلة فإن وجهتنا واضحة: علاقة عميقة وخاصة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي». لكن الأوروبيين ينتظرون منه أن يوضح ما إذا كانت لندن تريد خروجاً «قاسياً» من الاتحاد، أي من الاتحاد الجمركي والسوق المشترك، أو خروجاً «ناعماً». والأمر ليس سيان في الحالتين، فلكل حالة شروطها، ومترتباتها، وتكاليفها.
حتى الآن يبدو أن لندن لا تريد الخروج من الاتحاد الجمركي، لأن رجال الأعمال يرفضون ذلك بشكل مطلق. لكن بأي شروط يقبل الأوروبيون أن تستمر بريطانيا في التجارة الحرة معهم؟ إنه أحد أبرز المواضيع في هذه المفاوضات الشائكة التي بدأت. الصينيون واليابانيون والهنود والأمريكيون وغيرهم، جاهزون لإعادة النظر في استثماراتهم في بريطانيا إذا أحسوا بأنهم سيفقدون ممراتهم إلى السوق الأوروبية المشتركة. في مقابل هذه التسهيلات ماذا يطلب الأوروبيون؟
إذا كانت لندن تريد قطيعة كاملة لكونها واثقة من قدرتها على التحول سريعاً إلى «سنغافورة على بحر المانش»، فالوضع سهل جداً، لأن علاقاتها التجارية مع الاتحاد تصبح خاضعة لقواعد المنظمة العالمية للتجارة. لكنها إذا كانت تسعى إلى وضع خاص فالصعوبة بالنسبة للدول السبع والعشرين الأوروبية هي أنه إلى أي حد يمكن الذهاب في هذا الوضع الخاص من دون إغراء أعضاء آخرين في الاتحاد بأن يحذوا حذو بريطانيا مستقبلاً؟
في كل الأحوال، يتفق الجميع على أن مسار المفاوضات سيكون صعباً وشائكاً، حتى إن ميشال بارنييه أوضح في مقابلة صحفية أن الأوروبيين مستعدون لكل الاحتمالات، ومن ضمنها… عدم التوصل إلى اتفاق.Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى