أوجه مختلفة للديمقراطية
كمال بالهادي
في مجتمعاتنا العربيّة، هناك تجارب مختلفة لمشاركة المواطن في الشأن العام، وهناك أوجه مختلفة للفعل الديمقراطي، وطبعاً هناك تغييب للديمقراطية في بعض الحالات. وقد كشفت أزمات 2011 وما بعده، أنّ الخسائر يمكن أن تكون فادحة، إذا ما أجّلنا القبول بالنظام الديمقراطي، نظاماً سياسياً لا بديل عنه. وثبت بالدليل والبرهان أن تأجيل الديمقراطية ظلم للمستقبل، وظلم للأجيال القادمة التي لا يمكنها العيش في مجتمع تغيب فيه المساواة بين الجنسين، والعدالة الاجتماعية والديمقراطية الشاملة.
لو نظرنا في الأزمة السورية وتطوّراتها، سنرى في نهايتها رأيين يخرجان من قمقم الغبار والدماء. الرأي الأول يتمثل في الإشادة بالجيش وإنجازاته، وقدرته على التغلب على الجماعات الإرهابية، ويعتز ببقاء النظام المصنّف نظاماً «مقاوماً»، والرأي الثاني يتمثل في أنّ تضحيات الشعب السوري خلال السنوات الست الماضية يجب ألا تذهب هباء منثوراً، وأن الشعب السوري يستحق حياة سياسية أفضل مما أنجزه النظام الحالي. وفي كلتا الحالتين ليس هناك من رابح، بل إن الجميع خاسر، حتى إن ظن أنه منتصر في تلك الحرب الدموية التي راح ضحيتها الملايين من السوريين قتلى، وجرحى، ومفقودين، ومهجّرين. الأزمة السورية يجب أن تكون درساً قوياً يدفع نحو الإيمان بأن الديمقراطية هي الحل الأمثل لتجنّب كل المآسي التي عايشناها ليس في سوريا فقط، بل في أكثر من دولة عربية. ويفترض أن تنشأ عقلانية سياسية في سوريا لدى كل من النظام والمعارضة وهم يقفون على «ركام سوريا»، لمعاينة حجم الخسائر التي تكبدها البلد بسبب الصراع على السلطة، وبسبب غياب النظام الديمقراطي. سيتباهى الطرفان بالقدرة على جمع الأموال وتنظيم مؤتمرات إعادة الإعمار، ولكن ما ذنب الأجيال التي لم تولد بعد في أن تظل مرتهنة طوال حياتها لمؤسسات مالية دولية ساهمت في إعمار بلدها بعد الحرب؟ لو تم اقتصار المسافة وقبلت الأطراف الدولية اللعبة الديمقراطية، لخرج الجميع منتصراً، ولتم توفير الأموال والوقت من أجل تعزيز التنمية البشرية في كل شبر من سوريا، حتى لا يشعر الكردي، أو الشيعي، أو السني، أو أياً كانت الطائفة أو العرق، بأنه مواطن من درجة ثانية. الأمر هذا ينطبق على المثال العراقي، كما المثال الليبي، كما المثال اليمني.
قبل اندلاع موجة ما يسمى «الربيع العربي» التي عززت الفساد، تم تنظيم ندوة بعنوان نحو استراتيجية لمكافحة الفساد، وتمّ تقديم أرقام صادمة حينها. فقد تم الكشف عن أن الفساد يحرم الشعوب العربية من تريليون دولار، سنوياً، ما يعادل زيادة سنوية ب200 دولار في الرواتب وتحقيق اكتفاء ذاتي من الغذاء والمياه ومكافحة الفقر. وفي تقرير مؤشرات الفساد للعام 2016، احتلت ست دول عربية المراتب الأولى من ضمن العشر دول الأكثر فساداً في العالم، وهي مراتب مهينة تكشف أن سوء الإدارة السياسية في دولنا ينتج عنها انتشار الفساد، وعدم القدرة على مراقبة أخطبوط، استطاع أن يستحوذ على نسبة تفوق 50 في المئة من الاقتصاد الوطني في بعض الدول مثل تونس.
انتشار الفساد هو عنوان بارز لغياب الديمقراطية، وكلما تم تأجيل الخيار الديمقراطي، كلما تفاقمت الأزمات وانتشرت مظاهر غياب الثقة بالدولة. وتنتج عن هذه الصور حالة الرغبة في الثورة على الأنظمة السياسية، والتي تؤدي إلى صراعات دموية مثل التي نعيشها منذ العام 2011، وحتى قبل هذا التاريخ. ولعلّنا لا نجانب الصواب عندما نقول إن تاريخ الدولة العربية المعاصرة هو تاريخ الأزمات الاجتماعية والسياسية.
ولكن ترسيخ الديمقراطية، في مفهومها الشامل، بما يعنيه من فرض المساواة والعدالة وإشراك المواطن في السلطات المحلية والجهوية والوطنية، يحتاج إلى مقدمات فكرية ويحتاج هيئة أرضية معرفية ضرورية حتى لا تتحول الديمقراطية إلى فوضى شاملة.
لاشيء سوى العقلانية السياسية يمكن أن يقود مجتمعاتنا إلى تحقيق التقدم والحداثة. فالعقلانية هي الخيار الذي سارت عليه شعوب أخرى واستطاعت بهذا المبدأ أن تصنع التغيير الذي نقلها من وضع الشعوب المتخلفة إلى مصاف الشعوب المتقدمة. العقلانية السياسية وترسيخ الديمقراطية ومحاربة الفساد، هي «الثالوث المقدس» الذي يجب العمل به، إذا أردنا إنهاء زمن المآسي العربية، وإذا ما أردنا للأجيال القادمة أن تكون في مستوى تلك الشعوب التي تهاجر إليها الآن، أو تفرّ إليها رغبة في العيش بأمان.
belhedi18@gmail.com