قضايا ودراسات

أي استراتيجية لـ» الناتو»؟

د.خليل حسين*

يستعد حلف الأطلسي لإطلاق أكبر مناوراته العسكرية في العقد الحالي (ترايدنت جانكتشيه 18)، في الفترة ما بين 25 أكتوبر/تشرين الأول والسابع من نوفمبر/تشرين الثاني، ويعكس حجم المشاركة فيها المخاوف من الأعداء المفترضين والمحتملين وفي طليعتهم روسيا والصين، إذ سيشارك فيها 45 ألف جندي من دول الحلف. وتعتبر رداً مباشراً على مناورات (فوستوك 2018) الروسية الصينية التي شارك فيها 30000 جندي من القوات الروسية و3200 من القوات الصينية، والتي اعتبرت الأضخم منذ العام 1980، أي قبل عقد من انهيار الاتحاد السوفييتي. وتترافق هذه الاستعدادات مع حملات دعائية واسعة تتهم موسكو بشن هجمات سيبرانية على الولايات المتحدة وكندا وبلجيكا وغيرها، تشي بتركيز على الأخطار التي تشكلها موسكو على دول الحلف، وهو أمر ليس بجديد وله خلفياته التاريخية إبان الحقبة السوفيتية.
إلا أن الجديد في هذا الموضوع ظهور تيارات سياسية ذات طابع استراتيجي في الولايات المتحدة نفسها، تهدف إلى تحويل الأنظار في الحلف من الخطر الروسي المفترض أو المحتمل إلى خطورة الصعود الصيني الذي يشكل برأي هذه التيارات، التحدي الأصعب لواشنطن في العقد المقبل وما سيليه للعديد من الاعتبارات الاقتصادية. وفي لغة الأرقام بدأت الحرب التجارية التي شرع بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد بكين، عبر رفع الرسوم الجمركية إلى 10 في المئة على 5745 صنفاً صينياً حتى الأول من يناير/كانون الثاني 2019، على أن ترفع هذه الرسوم إلى 25 في المئة، وهي أرقام مهولة في التبادلات التجارية وضرائبها وتشكل مصدر قلق للصين وسلة التصديرات إلى الولايات المتحدة.
ويرى المهولون بالصعود الصيني، أن مع حلول العام 2025، سيتركز نمط من التعددية القطبية غير المتوازنة على المستوى العالمي، وفيها تحتفظ واشنطن بتفوّق نسبي، ومرد ذلك امتلاكها سلة من أوراق القوة التي لا منافس فعلياً لها في مجالات القدرة الاقتصادية والتطور التكنولوجي النوعي والقدرات العسكرية والجيوسياسية ، إلاّ أن المنافسة الفعلية ستكون في أعلى المستويات مع اللاعب الدولي الذي يليها وهو الصين. كما تؤكد هذه التيارات، أن الفروق في القدرة والقوة ستكون كبيرة بين بكين وواشنطن وحتى مع أطراف أخرى كروسيا وألمانيا واليابان والهند. وتنطلق هذه الرؤى من مقاربات معتبرة كعدد السكان في الدول الأوروبية مجتمعة الذي يصل حالياً إلى 500 مليون نسمة، فيما روسيا 140 مليوناً وهو مرشح للتراجع. وحجم اقتصاد أوروبا الذي يقدّر ب17 تريليون دولار، بينما حجم اقتصاد روسيا لا يتجاوز حسب التقديرات السائدة، تريليوني دولار. وتنفق الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الأطلسي أربعة أضعاف ما تنفقه روسيا على التسلح سنوياً. وبالتالي إن التركيز المبالغ به على الخطر الروسي، يحرف النظر برأي هذه التيارات عن التهديد الفعلي للصين. وبالتالي ضمور الدور الأمريكي في القارة الأوروبية على حساب الاستدارة نحو آسيا والتحدّي الصيني تحديداً.
إزاء ذلك ثمة تحدٍّ واضح للحلف بشكل عام وواشنطن بشكل خاص، يستتبع استراتيجيات نوعية، مثال كبح جماح الصعود الصيني تكنولوجيّاً على سبيل المثال، والمضي في سياسة الاحتواء كما تنادي هذه التيارات على قاعدة ما سارت به واشنطن لمواجهة الاتحاد السوفيتي سابقاً، إلا أن ما يواجه هذا الخيار عملياً أن ظروف الصين حالياً مغايرة تماماً لما كان عليه الاتحاد السوفيتي، إذ تمتلك من أوراق القوة ما يضعضع هذه السياسة على قاعدة الاستثمارات الصينية في السندات الأمريكية والتي يعتبرها الكثيرون كأسلحة دمار شامل اقتصادية بيد بكين، رغم مخاطرها المزدوجة على الطرفين. لذا يثار السؤال مجدداً حول تخبط حلف الأطلسي في استراتيجياته لجهة تحديد المخاطر المفترضة، وهي أسئلة تواجهه منذ حل حلف وارسو وتبدد الكثير من المبررات الفعلية والواقعية لاستمراره.

*أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية

زر الذهاب إلى الأعلى