إرثنا الثقافي : دبلوماسية شعبية
لا يختلف أحدٌ من الباحثين على أنّ التراثَ يشكل أحد القيم المعرفية والثقافية الراسخة لدى الأمم والشعوب، فهذا التراث لم يحدث بين ليلة وضحاها، ولم يتشكل في مرحلة زمنية قصيرة أو عابرة، ولم يتكون وفق آلية ما أو قانون محدد بتكوينه، ولكنه نتاج خبرات الشعوب على مدار العصور المتعددة، كل بناء ، ولو كان صغيرًا، يتأسس على ما سبق، وكل لحظة إبداعية إنسانية تنبثق عنها لحظة جديدة، إنه التراكم المعرفي الشعبي المفتوح الذي يعبر عن الشعوب وتقاليدها في الكتابة والقراءة والرسم والنحت والتشكيل والموسيقى والحرف الشعبية والأزياء وطرق الطهي، والقوانين الشعبية والرسمية، وهو ما تم رصده ما بين المكتوب والمقروء والمسموع، وما بين الثقافات المدروسة التي تعبر بها مراحل التعليم المختلفة، وبين الآثار الموجودة بكل مكان وزمان .
هذا الإبداع الذي تشكل في قيم حضارية متنوعة من قيم الكتابة والنحت، التي آلت اليوم إلى المكتبات والمتاحف، هي قيم باقية لأنها هي التي تضع الإنسان – كل إنسان – في هذا العصر موضع الباحث عن المعرفة، والتراث لا يرتبط بالماضي بالضرورة، أو بمرحلة زمنية عابرة، بل إنه مرتبط بالحياة، لأننا جميعا، نعيش به ونحيا به، ونتمثله في مختلف شؤون حياتنا، باعتباره الأرضية الطبيعية الإنسانية الرحبة التي نستند عليها وننمو مع أغصانها وأشجارها ومسافاتها .
ويشكل التراث في المملكة العربية السعودية فضاءً واسعًا ممتدًّا، زمانًا، ومكانًا، فهو يتسم بالتنوع على مختلف مستوياته المكتوبة والشفاهية، وقد حافظت الدولة السعودية على هذا التنوع الثري عبر مراحلها الثلاث، بحيث جعلت منه نبراسا فكريا وعقليا وإبداعيا جرى في الأذهان والعقول السعودية ليشكل فضاء ملهما للإبداع والابتكار.
إن تراثنا العميق الممتد عبر الزمان لأكثر من 16 ألف عام يذخر بكل ما شأنه أن يعزز قيم المعرفة، فهو تراث ديني حي يتعلق بمكة المكرمة التي تحتضن أول بيت وضع للناس ، وبالمدينة المنورة التي تأسست فيها بدايات الدولة الإسلامية ، ولنا أن نتصور كم المثاقفة الهائل الذي شهدته المدينتان من تراث ديني توحيدي وإسلامي بدءا من النبي إبراهيم عليه السلام، حتى خاتم الأنبياء والمرسلين النبي محمد صلى الله عليه وسلم، هذا التراث الهائل لم يتحرك في بقعة ضيقة بل انتشر في العالم كله، وحتى اللحظة واللحظات المستقبلية لن يكف عن الانتشار والإشعاع في أنحاء العالم.
ومن جانب آخر فإن تراث اللغة العربية والشعر والنثر وما شكله هذا التراث من إبداع لا نظير له في الأمم الأخرى، سواء كان بالفصحى أم باللهجات المتنوعة ، تحتضنه هذه البلاد المباركة، وتحتضنه أرض جزيرة العرب، أرض المملكة العربية السعودية، وما يميز هذا التراث أن بلادنا حافظت على وجوده، ولم تهمله لحظة واحدة بل جمعته المكتبات ومراكز البحوث والجامعات والهيئات الثقافية المختلفة، وتعمل وزارة الثقافة إلى إعادته لصدارة المشهد لأنه لا يشكل قيمنا الثقافية الأصيلة فحسب، بل يشكل أيضا قيم العالم العربي والإسلامي كلها، ويكفي أن القرآن الكريم الذي نزل بالعربية، والشعر العربي والنثر العربي كلها عناصر أسهمت في بقاء اللغة العربية ووجودها لأكثر من 1700 عام ، وهذه سمة غير موجودة بأية لغة في العالم، وكأن ثقافتنا بمثابة نوع من الدبلوماسية الشعبية العالمية التي تشع هنا وتنطلق لمختلف أرجاء العالم.
إنك – أيها القارئ الكريم- لو مددت بصرك على امتداد جغرافيا المملكة ستجد هذا التنوع الثقافي الكبير جنوبا وشرقا وغربا وشمالا وفي المنطقة الوسطى الحاضرة النجدية التي احتضنت تاريخنا الشعبي والتراثي، واحتضنت الهوية الشعرية والسياسية والعمرانية والاقتصادية، وتأسست فيها الدولة السعودية بمراحلها المتجددة، على امتداد العهود.
إننا نرى هذا التنوع المكاني في الآثار، والمباني، والطرق والمدن والقرى والسهول والوديان والجبال، فيما نرى التنوع الإبداعي المترامي في كل مدن المملكة والمعبر عن تراثنا وهويتنا. إن المملكة بمثابة قارة متحفية ممتدة، لن يكف الباحثون والدارسون عن إعادة ابتكار ما تحويه من تراث وفنون وإبداع وعادات وتقاليد في منظومة ثقافية تزهو بها المملكة وتتألق وتسطع لتشكل نبراسا تنويريا للثقافة العربية والإسلامية وكنزا لا ينضب للحضارة الإنسانية الملهمة.