إساءة فهم الإرهاب
تأليف:مارك سيغمان عرض وترجمة: نضال إبراهيم
شهدت مرحلة ما بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، ظهور أشكال جديدة من العنف السياسي وتنظيمات إرهابية جديدة، إلا أن الغرب بأجهزته الإعلامية والاستخباراتية ارتكب أخطاء في تعامله مع مسألة الإرهاب والإرهابيين، وردود الفعل المبالغ فيها، فأثر ذلك في الحياة الاجتماعية في عدد كبير من المجتمعات.
يحاول هذا الكتاب تحليل هذا الجانب، خاصة أن عدداً ليس بالقليل، تبنى أيديولوجيات أصولية وأساليب إرهابية، رغم تمتعهم بمستوى عال من الثقافة والتعليم، وينتقد هنا أسلوب الحكومة الأمريكية في معالجة العنف السياسي والإرهاب، وعدم وضعها معايير في التعامل مع الإرهابيين الحقيقيين والمشتبه فيهم.
يتناول الدكتور مارك سيغمان، وهو خبير في شؤون «القاعدة» والمنظمات «الجهادية»، في كتابه الصادر حديثاً «إساءة فهم الإرهاب» (224 صفحة، منشورات جامعة بنسلفانيا) مسألة شديدة الأهمية، يتابع من خلالها من بدأه سابقاً من تحليل دقيق وبحث معمّق في بنية عمل المؤسسات الإرهابية وآلية تجنيدها لأشخاص غربيين، لا سيما أن نسبة كبيرة منهم من المثقفين وأصحاب الشهادات العلمية.
وهو يبحث في الدوافع والأسباب، ويفرّق بين ما هو فردي و جمعيّ. وقد انتقد، من موقعه كمعالج نفسي وخبير سابق في جهاز الاستخبارات المركزية الأمريكية «سي آي إيه»، النظريات الغربية عن ضمّ تنظيم «القاعدة» لمجنديه، وأوضح في دراسات تحليلية أن تلك النظريات لم تكن تتسم بالدقة.
أهمية التقييم الدقيق
يحاول سيغمان في كتابه إعادة تقييم شكل وطبيعة التهديد الجهادي العالمي الجديد للغرب. بالنظر لما شهدته حقبة ما بعد 11 سبتمبر من أنماط عنف سياسي وشخصيات جديدة ممثلة للإرهاب. ويكرّس جزءاً كبيراً من دراسته لفهم الكيفية التي يتبنى بها الناس إيديولوجيات أصولية متطرفة، ولماذا انبثقت الأنماط الإرهابية الجديدة.
لا يخلو أسلوب سيغمان في هذا الكتاب من انتقاد تعامل المجتمع الأمريكي مع التهديدات الإرهابية، وهو يحيل ذلك إلى مقاربة الحكومة الأمريكية التي جاءت كردّ انفعالي مبالغ به تجاه تهديد موجود، إلا أنه وبرغم بعض الأحداث التي حصلت وشاهدها العالم، محدود ولم يقيّم بدقة.
يتألف كتاب «إساءة فهم الإرهاب» من مقدمة وخمسة فصول: «التهديد الحقيقي»، «نظرية الاحتمالية ومكافحة الإرهاب»، «إساءة فهم الراديكالية»، «مسلحون داخل السياق: نموذج التحول إلى العنف السياسي»، و«إنهاء العنف السياسي في الغرب».
يعبر المؤلف في مقدمته عما تعنيه له فكرة «العنف السياسي»، ويقول إنه «منذ الطفولة، كنت مشغولاً بقضية العنف السياسي، وبالنسبة لي، لطالما أثارت المجازر ذات الدوافع السياسية سؤالاً مهماً: كيف يمكن أن يكون هذا معقولاً؟ وفي الخمس وأربعين سنة الماضية، انكببت على دراسة هذه القضية، أولاً من منظور الضحايا، ثم من منظور مرتكبيها. وفي العقد الماضي، تسنّى لي الوصول إلى معلومات دقيقة عن المسؤولين عن تلك الأحداث، واستطعت مقابلة العديد منهم». كما يقول إنه كان متأثراً بقوة ب «أعمال المؤرخين وعلماء الاجتماع بتطبيق نظرية الحركة الاجتماعية على الحركات الإسلاموية». و يصرح أن ثمة «هوة كبيرة بين فهم الإرهاب من جهة، وطرق تصويره وعرضه في وسائل الإعلام والإنترنت والتصريحات الحكومية الرسمية من جهة أخرى».
ولا يوفر سيغمان فرصة لانتقاد محللي البيانات الحكومية التي تُجمع عن الجماعات الإرهابية والمشتبه فيهم ممن لم تثبت إدانتهم أو يقيّم خطرهم بعد. ويقول «توصلت إلى قناعة أن الأكاديميين يفهمون كل شيء، لكنهم لا يعلمون شيئاً، أما المحللون الحكوميون فيعلمون كل شيء، ولا يفهمون شيئاً». وهو يرى أن هؤلاء المحللين لا يقومون بدورهم على النحو المطلوب لأنهم مكبّلون بالسياسة، وبالخلط الذي يقعون به عندما يفرقون بين إرهابي حقيقي وشخص مشتبه فيه.
دوافع العنف السياسي
انطلاقاً من هدفه في مقاربة مفهوم «إساءة فهم» الإرهاب، يبحث المؤلف في مسألة التهديد الذي يحدق بالغرب وبخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. وهو الحدث الرئيسي الذي يصفه في الفصل الأول «التهديد الحقيقي» بأنه قد «غيّر نفسية الناس ليس في أمريكا فحسب، وإنما في العالم الغربي كله. فقد أثّر ذلك في الحياة اليومية بأشكالها كافة حيث ظهرت القيود على الحريات الشخصية. كما أدى إلى مشاعر وأفعال مناهضة للمسلمين، إذ إن الغربيين قاموا بتوجيه اللوم لأمّة كاملة بسبب أفعال مجموعة صغيرة للغاية، واتهموا الكثير من الأبرياء بأنهم إرهابيون».
يقول سيغمان إن هذه التحولات أدّت إلى طرح العديد من الأسئلة المتعلقة بجدية هذا التهديد الذي تمثله ال «جهادية الجديدة» تجاه الغرب. وهو في بحثه يستخدم أربعة معايير دقيقة. أولاً: يحصر دراسته بفترة عقد من الزمن، من 11 سبتمبر/أيلول 2001 إلى 10 سبتمبر/أيلول 2011. ثانياً: يركز على الخطط/الهجمات التي وقعت في الغرب حصراً، وهو يعني هنا الاتحاد الأوروبي، أمريكا الشمالية، أستراليا ونيوزيلندا. ثالثاً: يجب أن تنتمي هذه الخطط/ الهجمات لموجة الجهادية الجديدة. رابعاً، وهو الأهم: أن تكون هذه الخطط/ الهجمات حقيقية وجدية.
ويتابع المؤلف في الفصل الثاني «نظرية الاحتمالية ومكافحة الإرهاب» كلامه عن الخلط الذي يقع به ضباط وموظفو مكتب التحقيقات الفيدرالي «إف بي آي» تجاه متابعة المشتبه فيهم؛ حيث إنهم لا يقومون بمراعاة الفروق التي يتم احتجاز هؤلاء الأشخاص على أساسها، كأن يكون أحد ما متورطاً في حادثة إرهابية، وأن يكون الآخر مشتبهاً فيه لقيامه بتحويل مالي من مكان بعيد لشخص آخر متورط أو يشتبه بتورطه. هذا الخلط هو ما يسمّيه سيغمان «نظرية الاحتمالية»، وهو يشدد على ضرورة وجود معايير دقيقة وحاسمة لا يمكن التوصل إليها إلا عبر دراسة المعلومات وتصنيفها وتكوين صورة مفصّلة وواضحة.
ويكشف المؤلف عن الفوارق التي تظهر في كيفية التعامل مع المعلومات بين الحكومات الأوروبية والحكومة الأمريكية. ويقول إن هذا الموقف يتغير بحسب تعداد المسلمين في كل دولة والقرب من المناطق التي تكثر بها الحوادث. وبالمقارنة مع غيرها، فإن الحكومة الأمريكية تقوم بأسوأ رد فعل تجاه التهديدات المفترضة.
الراديكالية والتحول إلى العنف
في الفصل الثالث «إساءة فهم الراديكالية» والرابع «مسلحون داخل السياق: نموذج التحول إلى العنف السياسي» يوضح سيغمان أن الراديكالية تُفهم كظاهرة مجتمعية أكثر مما هي عمل فردي بوجود دافع ديني أو بعدم وجوده، حيث إن الجماعة الجهادية تنشأ في مجتمع محتجّ سياسياً تعرض لهجوم من دولة غربية، ما يؤدي لحالة استقطاب تحمل دوافع العنف السياسي وتولد التطرف. وهو سيتطرق إلى هذه الفكرة بمزيد من التفصيل في الفصل الخامس، حيث سيستعرض مثالين من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
ويشدد المؤلف على أن عملية التحول الراديكالي تحمل أهمية كبيرة بذاتها، حيث إنها الأساس الذي تدور حوله الدراسات الاجتماعية والسياسية والطبقية والنفسية للأشخاص الذين ينخرطون فيها. وهي باتت اليوم تحمل دلالات جديدة ومظاهر لم تكن معروفة من قبل. كما تظهر على السطح قضية الإرهابيين الغربيين الذين يثبت تورطهم في العمل مع تنظيم «داعش»، والعائدين من مناطق الصراع إلى بلادهم، ويشدد على ضرورة التعامل بحزم معهم لضمان عدم امتداد العنف إلى العالم الغربي وفق التصور الذي وضعه في مقدمة الكتاب.
ومن النقاط المهمة التي يطرحها سيغمان إشارته إلى فترة ال 230 سنة الأخيرة التي اتسمت بمظاهر العنف السياسي، وشكّلت ما يسمّيه بموجة الإرهاب التي يمكن وصفها بالجهاد العالمي الجديد، حيث إن أهم سمات هذه الموجة استقطابها الممنهج والمؤدلج للشباب.
وهو يناقش سؤالاً يتمحور حول «لماذا يتجه الشباب نحو العنف»؟ وهي عملية بسيطة ومعقدة في الآن ذاته؛ إذ إن هؤلاء الشباب ينخرطون في منظومة اجتماعية «متخيّلة» تبحث عن هوية اجتماعية وسياسية مجردة (ك «الأمة») وتحاول نقل هذا المفهوم المجرد إلى ممارسات فعلية بناء على حقيقة تعرضها للقمع، ما يؤدي إلى تصعيد تكون فيه الحلول متطرفة من كلا الجانبين. لذا، فإن هذا الاستقطاب للشباب يأتي أولاً ضمن مسألة امتلاك الهوية الاجتماعية والدفاع عنها، ليأتي بعد ذلك «التحول إلى العنف السياسي» بأشكاله المختلفة ومستوياته المتزايدة. ويركز المؤلف على العلاقة بين الطبيعة النفسية للفرد والطبيعة الجمعيّة لهذه المنظومة المتخيّلة ل«مجاهدين».
استراتيجيات إنهاء العنف
في الفصل الخامس «إنهاء العنف السياسي في الغرب»، يذكر المؤلف مثالين تاريخيين، طبقة sans-culottes في فرنسا، وهي طبقة متدنية من العمال الفقراء ظهرت خلال الثورة الفرنسية ومارست أعمال عنف ما لبثت أن استطاعت الشرطة إنهاءها. وقد عادت للظهور في بدايات القرن التاسع عشر، لتهزم وتختفي بين عامي 1832 و1834. ثم ظهرت مجدداً في أواخر القرن الثامن عشر لينال زعماؤها محاكمات عادلة.
المثال الثاني هو حركة «إرادة الشعب» (نارودنايا فوليا) التي وصفت بالحركة الإرهابية وظهرت في روسيا عام 1879، وكان لها لجنة مركزية تولت مسؤولية أعمال عنف وشغب كبيرة. لتنتهي هذه الحركة خلال 15 عاماً عبر خيانة زعيمها. وهذه الفكرة بالتحديد، خيانة الزعيم للحركة أو التنظيم، هي من الأساليب التي يمكن إنهاء العنف السياسي من خلالها، وهو ما سيتطرق المؤلف له لاحقاً في هذا الفصل.
يبتغي المؤلف من هذين المثالين تقديم فكرة عن كلّ من هاتين الحركتين، من ناحية التنظيم، الإيديولوجيا، الاستقطاب، الممارسات، تبنّي العنف، وكيفية إنهائها والقضاء عليها. ويشير إلى أنه «في داخل المجتمع المحتجّ سياسياً، فإن هذه الممارسات تدعم ادعاءات المتطرفين بأن منظومتهم الاجتماعية في حالة حرب، مما يصعّد من مستوى العنف ويزيد من عدد المحتجّين سياسياً ويدفعهم للانخراط في هذه الممارسات».
يشير المؤلف إلى دراسة تقول إن «10 في المئة من جماعات العنف السياسي تحقق نجاحاً في أهدافها، فيما 43 في المئة تتبنى تكتيكات غير عنيفة وتنضم للعملية السياسية، وهناك 40 في المئة ممن تتولى قوات الشرطة أمرهم، و7 في المئة تكون مهمة التعامل معهم من وظيفة الجيش. فيما تشير دراسة أخرى إلى طرق مختلفة لإنهاء العنف السياسي: انتزاع القيادة، الفشل من خلال انهيار الجماعة من الداخل، التهميش، أو الانتقال إلى مستويات أخرى من العنف مثل أعمال السرقة، التمرد و الحرب».
ويقدم سيغمان نقده للدراستين ويضيف أن «دائرة العنف يمكن أن تنتهي عبر استراتيجية سياسية حكيمة». على اعتبار أن «تصعيد الصراعات من قبل الجهتين سيقود إلى ظهور العنف واستمراره. ومن العوامل الرئيسية التي تمكّن الدولة من إنهاء العنف، تقييم التهديد بشكل دقيق، لا عبر الرد الانفعاليّ».
نبذة عن المؤلف
ولد مارك سيغمان في بولندا عام 1953، درس في جامعة نيويورك وحاز شهادة دكتوراه في علم الاجتماع. زميل دائم في معهد أبحاث السياسة الخارجية
FPRIفي بنسلفانيا، ومؤسس لشركة سيغمان الاستشارية. محلل سياسي ومتخصص في العنف السياسي والمنظمات الجهادية. يلقي محاضرات في جامعات كبرى مثل هارفارد ومعهد ماساشوستس للتقنية وجامعة جون هوبكنز. عمل أخصائياً نفسياً وموظفاً في جهاز الاستخبارات المركزية CIA. عمل في باكستان بين عامي 1987 و1989، حيث تعرف عن قرب إلى «المجاهدين الأفغان» والمنظمات «الجهادية». يعمل مستشاراً لحكومات عدد من الدول مثل فرنسا، أستراليا، إسبانيا، كندا، ألمانيا وبريطانيا. استقال من عمله مع CIAعام 1991 ليتفرغ لممارسة الطب النفسي وعمله الاستشاري والبحثي.
نشر قبل كتابه «إساءة فهم الإرهاب» كتابين مهمين هما: «فهم شبكات الإرهاب» (2004) الذي وصفته «ذا إيكونوميست» بالكتاب «المؤثر»، وبأنه من أفضل الدراسات التي تبحث في ظاهرة الجهاد العالمي وأكثرها عمقاً. كما أنه يضمّ خلاصات وأفكاراً قوّضت الكثير من المفاهيم التقليدية في الغرب حول نوعية المنضمّين للجماعات الجهادية. أما كتابه الثاني فكان «جهاد بلا قائد» (2007)، الذي يناقش فيه مسألة كون الصداقة والقرابة عاملين أساسيين في الراديكالية، التي هي في أساسها عملية «جمعية» أكثر منها «فردية».