«إسرائيل» المُتنمرة حائرة.. لماذا؟
علي جرادات
قيل والقول أداة للتحليل والفهم: «الحرب امتداد للسياسة»، وحيث تتراجع لغة الأخيرة الناعمة تتقدم لغتها العنيفة. هذا عموماً، فما بالك ب«إسرائيل» التي أكدت التجربة صوابية مقاربة أنها «دولة لجيش»، ما أن تُنهي حرباً حتى تبدأ الإعداد لحرب قادمة. لذلك، لا غرابة، بل بداهة أن تصبح «إسرائيل» المارقة الرافضة، أصلاً، للتسويات السياسية أكثر صلفاً في السياسة، وأشد عربدة في الميدان، بعدما منحتها إدارة الرئيس ترامب، دعماً مطلقاً، بلغ حدود تبني مزاعمها التلمودية التي تعتبر الضفة الفلسطينية وقلبها القدس، (عدا الجولان السوري، ومزارع شبعا وكفر شوبا اللبنانية)، (جزءاً «محرراً» من أرض «إسرائيل» التاريخية)، ينبغي عدم التفاوض عليه.
لكن، كي تُبنى المواجهة مع «إسرائيل» المتغطرسة على أسس علمية لا أسطورية، يجدر التذكير بأن السياسة «جبر لا حساب»، أي فيها المجهول المفاجئ دوماً؛ ما يفسر أن «إسرائيل» المُتنمِّرة، جيشاً وأجهزة أمنية ومستوطنين، في مواجهة الفلسطينيين، لدرجة أن ترد، (مثلاً)، على مقتل مستوطنيْن باقتحامات عسكرية وحشية لمدينتيْ جنين ونابلس وبعض قراهما، نفذت خلالها عمليات قتل وإصابات واعتقالات طالت عشرات الشبان والفتية والأطفال، وعمليات تجريف وهدْمٍ لبيوت أحياء بكاملها؛ هي «إسرائيل» ذاتها التي ابتلعت، (مؤقتاً على الأقل)، حادث إسقاط إحدى طائرتها على الجبهة الشمالية، وتقف حائرة بين الذهاب لحرب تريدها، ولا تضمن نتائجها، وبين تأجيلها الذي لن يقود، كما يعلن قادتها، إلا إلى تعاظم قوة الطرف المقابل، ما يجعل عواقب الحرب معه مستقبلاً أكثر كارثية على كيانهم، بعامة، وعلى «جبهته الداخلية»، أي «بطنه الرخوة»، بخاصة.
هذا يعني أن «إسرائيل» التي زادها القرار الأمريكي بشأن القدس عربدة على عربدة، هي، وإن كانت ليست «نمراً من ورق»، فإن قادتها باتوا، (والعسكريون والأمنيون منهم بالذات)، يعون، أكثر من أي وقت مضى، حدود قوة كيانهم ومحدودية عمقه الإستراتيجي. بل، وباتوا يعرفون أن زمن حروبهم الخاطفة، وانتصاراتهم العسكرية الحاسمة المبهرة، وتجنيب، وهنا الأهم، «جبهتهم الداخلية» كوارث حروبهم، قد ولّى. وباتوا يعون، أيضاً أن «قوة ردعهم» أصبحت معطوبة. لكن، ولأن «كل نظام يعيش مأزقه حتى ينتج حفار قبره»، فإن قادة «إسرائيل» سيلقون، تقدم الأمر أو تأخر، المصير ذاته، طالما ظلوا يتشبثون بنظرية أن ما لا يتحقق بالقوة يتحقق بالمزيد من القوة؛ فيما أبطل دخول الصواريخ، كسلاح أساسي في الحروب، نظرية «نقل المعركة لأرض العدو»، وجعلها بلا معنى، لناحية حماية جبهتهم الداخلية.
إن قادة «إسرائيل» ومن فرط إحلالهم لفكرتهم محل الواقع وكأنها هو، سيواصلون محاولات استعادة «قوة ردعهم»، فيما بات واضحاً، حتى لمن لا يعرف من السياسة غير اسمها، تنامي، وربما استفحال، «التناقض بين فائض أهدافهم وتآكل عوامل قوتهم»، وأبرزها:
1:العامل العسكري، حيث لم يحقق الجيش «الإسرائيلي» الذي أُلصقت به أسطورة «أنه لا يُقهر»، نصراً عسكرياً حاسماً لا لبس فيه منذ نصره المبهر في عدوان 67، بل وهُزم، بالمعنى النسبي طبعاً، باعتراف لجان التحقيق الداخلية في نتائج بعض حروبه.
2: العامل الديمغرافي حيث لم يعد هناك، (حسب إحصاءات الديمغرافيين «الإسرائيليين» قبل سنوات)، أغلبية سكانية يهودية بين البحر والنهر، بل توازن وتداخل سكاني مع الفلسطينيين، ما يعني أن مطلب («إسرائيل» دولة لليهود)، صار خارج الممكن الواقعي والتاريخي.
3: العامل المعنوي، حيث زاد عدد قادة الاحتلال، (بينهم رئيس دولة ورئيس حكومة ووزير الحرب ورئيس أركان)، الذين ثبت فسادهم، عدا الذين تحوم حولهم تهم الفساد، وعلى الأغلب، أن يدخل رئيس حكومة الاحتلال الحالي، نتنياهو، السجن بسبب فساده.
4: العامل السياسي والدبلوماسي، حيث تتنامى مقاطعة «إسرائيل» وعزلتها على المستوى الشعبي العالمي، و«الغربي» منه بالذات، لدرجة أن تصفها استطلاعات الرأي العام الأوروبي بأخطر دولة على الأمن والاستقرار في العالم.
يتضح من الكلام أعلاه كم هي ممكنة وواقعية إمكانية كسر عربدة الاحتلال وتعميق مأزقه في حال أن يستعيد الفلسطينيون وحدتهم ويضربون بقبضة واحدة في انتفاضة شعبية هي، حسب القاموس الفلسطيني على الأقل، ليست مجرد أعمال مقاومة نخبوية، أو نشاط انتفاضي لأعضاء وأنصار الفصائل، أو هبة جماهيرية موقعية تدوم لأسابيع أو أشهر؛ بل نهوض شعبي عام، مستمر، وشامل، بفعل توافر مرجعية سياسية وميدانية وطنية موحدة، تضع له هدفاً، (ناظماً)، سياسياً محدداً، وتدعو لأن ينخرط في معمعانه، من موقع المشاركة، وإن بتفاوت وأشكال نضالية مختلفة، جميع تجمعات الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، بكل فئاته الاجتماعية والعمرية، رجالا ونساء، وفصائله السياسية، وقواه المجتمعية والثقافية، وأُطره الجماهيرية.
ali-jaradat@hotmail.com