قضايا ودراسات

إعصار.. وإعصار

كم صار في أحزان البعض ومصائبهم مدعاة تشفّ للبعض الآخر.
كم صارت الأحقاد في عيون الآخرين حاضرة للظهور عند كل منعطف في حياة إنسان أو تجربة صعبة يمر بها.
ومن يضمن العمر حلو المذاق بلا كؤوس من المرّ؟ من يقدر على امتلاك الفرح، أو القبض عليه بقوة، ليسكنه قلبه، وبيته طوال الأيام والليالي، من دون أن يسرق منه الحزن المفاتيح ليدخل وقتما يشاء وبلا استئذان؟
حين تشتد المصائب، وتزداد الأزمات الاقتصادية، وتقرع الحرب طبولها في بلد ما، يتملكك إحساس بأن الأرض كلها تهتز، والمشاعر تنادي البشر، بشكل تلقائي وعفوي، للتضامن مع «الآخرين» المبتلين بهذا المصاب. لكن ما يحصل مختلف، فالتضامن الإنساني هذا يكون وليد اللحظة لدى الجميع، يستمر لدى البعض في حين يتحول سريعاً لدى فئة من الناس إلى مجرد خبر ومادة للتداول.
وحين تغضب الطبيعة فتعلن انقلابها على «الأخضر واليابس»، وعلى البشر أيضاً، مرسلة طوفانها، وأعاصيرها، وبراكينها، وزلازلها، لتهدم وتردم وتجرف، وتقتلع كل شيء من جذوره، حتى الإنسان، يهاب المرء اللحظة، يرتعش تأثراً، يتذكر الله ويذكره للحظات، ثم ماذا؟ ثم يصير الإعصار حدثاً وخبراً، وصوراً ومقاطع فيديو يتم تداولها، فئة تشفق على السكان المتضررين والمشردين والقتلى والمفقودين.. وفئة تتشفى بالدول لأنها تدفع ثمن سياسات حكامها. أي منطق إنساني وأخلاقي هذا؟
إذا كان إعصار «إرما» مرعب إلى هذا الحد، يخيف الإنسان ويجعله أمام اختبار الإيمان، وحقيقة الحياة والموت، وقيمة النفس وكنوز الأرض والباقي والفاني، وحساب الضمير.. هذا الغضب العاصف، والإنسان أمامه ضعيف بلا حول ولا قوة، يأتي مرة ويرحل، يهز الأرض ومن عليها كأنه صحوة ضمير وإيمان ويرحل. إنما ماذا نقول عن الأعاصير التي يسببها البشر كل يوم، ومتى هبت لا تعرف الرحيل إلا بعد أشهر وسنوات؟
بماذا نصف «إعصار الروهينجا»، أو بالأحرى «إعصار ميانمار»؟ ومن أين هبّ «إعصار داعش» وإلى أين ينتشر؟ ومن أين هبت أعاصير الفتنة والانقسام في سوريا واليمن والعراق، وغيرها الكثير من الدول التي تحولت فيها الحياة إلى رهينة بين أيدي مجموعات إرهابية، دمرت وسحلت، وقتلت، وجرفت، ومحت معالم وآثاراً وتاريخاً وفكراً وثقافة؟.. تلك أيضاً أعاصير، إنما من صنع البشر، تستنزف الحياة، لا تهبّ مرة بقوة وترحل تاركة خلفها ما تبقى من أحياء و«أحياء». هي تهبّ وتنام على جمر لتشتعل مرة ثانية، وثالثة، بل مئات المرات.
حين تغضب الطبيعة في بلد بعيد عنك فتدمر، وتغيّر خريطة العالم وتقتلع كل ما يصادفها، يقشعر بدنك، تحتضن أبناءك، تطمئن على أهلك وإن كانوا في الشارع المجاور لك، وبينكم وبين الكوارث مسافة سفر طويل.. هو مجرد إنذار ومحطة ليقظة الضمير، أما إعصار البشر فهو لحظة موت الضمير.
نور المحمود
noorlmahmoud17@gmail.comOriginal Article

زر الذهاب إلى الأعلى