إعلام بالعامية
د. حسن مدن
يحرص المذيعون والمذيعات العرب في قنوات فضائية تابعة لدول أجنبية مثل «بي.بي.سي» و«فرانس 24» و«آر تي» الروسية وسواها، على النطق بلغة عربية فصحى سليمة، لا في إذاعتهم للنشرات الإخبارية وحدها، وإنما أيضاً في المقابلات التي يجرونها مع ضيوفهم، وفي إداراتهم للبرامج الحوارية. وعلى ما في بعض هذه الحوارات من سخونة، فإنهم لا ينزلقون للعامية أبداً، للدرجة التي لا نكاد فيها نتبين من أي بلد عربي ينحدر المذيع أو المذيعة، لأن لهجته الدارجة لا تتسرب، إلا فيما ندر، وعلى سبيل الاستثناء، إلى حديثه بالفصحى.
السؤال الكبير هنا: لماذا يحرص هؤلاء المذيعون والمذيعات العرب في تلك القنوات على ذلك، فيما يتبارى المذيعون والمذيعات في محطات التلفزة العربية على التسابق في استعراض مهاراتهم في اللهجات المحلية لبلدانهم حد الزعيق أحياناً، والابتذال أحياناً أخرى؟
وكيف حدث أن اختفى من محطاتنا الإذاعية والتلفزية المدربون الأكفاء من أساتذة اللغة والنطق السليم، الذين كانوا ينفقون الجهد والوقت في إعداد وتأهيل المذيعين الشباب الجدد، الذين لا نرى لهم طلة ولا نسمع لهم صوتاً قبل أن يعدوا الإعداد المطلوب من قبل هؤلاء المدربين؟
لست من خصوم العامية في المطلق، فلنشوء وتعدد اللهجات العربية سياقات ثقافية ومجتمعية، ومؤثرات تاريخية، وأخرى جغرافية آتية من التأثر بلغة البلد المستعمر سابقاً، أو من لغات بلدان مجاورة تربطها بها أواصر الجوار والتفاعل.. إلخ. والعامية، إلى ذلك، أعطتنا شعراً عظيماً لا يمكن، في أي حال، الاستخفاف بأصالته وعمقه، أكان ذلك في مصر أو العراق أو لبنان وبقية بلدان الشام، وفي المغرب العربي والخليج العربي أيضاً، ومن هذا الشعر ما غُني وخُلد بصوت عمالقة الطرب العربي كأم كلثوم وفيروز ومطربي العراق.. إلخ.
لكني مع ذلك لا أفهم أو أستسيغ أن يتحول الإعلام العربي، المرئي خاصة، ويكاد يكون بقضه وقضيضه، نحو العامية السوقية التي ليس فيها شيء من عامية صلاح جاهين أو أحمد فؤاد نجم أو مظفر النواب أو طلال حيدر أو غيرهم.
ماذا يبقى للفصحى العربية، التي تفضلت علينا منظمة «اليونيسكو» مشكورة باختيار يوم عالمي لها، علّها تذكرنا بما في لغتنا من جمال وفصاحة ومكامن سحر، إذا كان إعلامنا، يتحول طوعاً، نحو العامية، ويتخلى، طوعاً أيضاً، عن الفصحى، مما فتح الباب لكل من هب ودب ليتحولوا إلى نجوم إعلامية، رغم فقدانهم للشرط الأساس، أو فلنقل أحد الشروط الأساسية، للإعلامي الناجح وهو اللغة السليمة؟
أحد موجبات الاحتفاء باللغة العربية، وأكاد أقول موجبات رد الاعتبار إليها، تكمن في «تعريب» الإعلام العربي، لا بمعنى أنه بات ينطق بلسان أعجمي، وإنما لأنه بات ينأى أكثر فأكثر عن لغته العربية من حيث هي منظومة قواعد نحو، ومن حيث هي منظومة صوتية للنطق السليم.
madanbahrain@gmail.com