قضايا ودراسات

احدودب ظهر المقهى..

يقع مقهى «السنترال» في وسط العاصمة الأردنية عمان، و«يجري» تحته شارع السلط مثل شريان من البشر والسيارات، ومن الأليف والمألوف أن تلفتك تلك المجاورَة الأبدية بين كشك «أبوعلي» للكتب، وبين مبنى البنك العربي برسوخه الحجري القديم، وبالقرب منهما تماماً محل صغير لبيع الكنافة النابلسية الساخنة، وإلى جواره محل آخر لبيع القهوة، تأكل وتشرب واقفاً، وإذا انتهيت من هذه «الوجبة» الصباحية، تتوقف طويلاً أمام الصحف والمجلات والكتب التي تعطي الشارع طبيعة إنسانية ثقافية.

في السبعينات والثمانينات كان «السنترال» أشبه بمنتدى سياسي ثقافي فكري- لكتاب وشعراء وفنانين يراوحون، كما يقول محمود درويش، بين اليمين واليسار والوسط، وقد التأموا على طاولات الورق والنرد مع «أوتوستراد» لا يتوقف من كؤوس الشاي وفناجين القهوة التركية.
اليوم.. هجرت مقهى «السنترال» بل تحولت إلى «شيء» آخر، والشاعر اليساري المأخوذ حتى العظم برأس مال «ماركس»، قد يكون تحول إلى «داعشي» اليوم، والمفكر «العضوي» الذي كان ينفق وقته في الثرثرة حول «غرامشي» والأدب الواقعي.. قد يكون اليوم لا يجد ما يكفيه من المال لشراء الخبز لأولاده أو تطبيبهم في المستشفيات.
ويذكر من عاش في لبنان في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، بشغف وحنين جارف أحوال مقاهي بيروت في ذلك الزمن الذي تحول اليوم إلى زمن سياسي مشوّه، الحزبي العابر للبنان صوب إيران والمذهبي الذي لا يرى سوى عمامته، والطائفي المحشور في تاريخ الثأر، وفي المقابل بالطبع هناك ما يوازي هذا السواد بسواد آخر وهكذا، سوف يموت شارع الحمراء في بيروت الذي كان شاعر الشعراء والسياسيين وحملة الأسلحة.. صحيح أنه في أية لحظة قد يتحول الشارع إلى لسان من لهب الرصاص، ولكن تظل روح المقهى بعيدة نفسياً ومكانياً عن روح السلاح.
يقول اللبنانيون إن شارع الحمراء ومقاهيه السبعينية الثمانينية قد مات، ولكن بعض المقاهي تشبه البشر، فالمقاهي تهاجر أيضاً، بل لا تهاجر من شارع إلى شارع فقط، بل تهاجر من مدينة إلى مدينة، ومن بلد إلى بلد، لكن هيهات أن تكون أرواح الناس هي نفسها سواء في الإقامة أو في الهجرة.
جلست أكثر من مرة في مقهى «الهافانا» في دمشق الثمانينات، كنت أرى مظفر النواب بثيابه البيضاء الأنيقة وخطه المنمنم الصغير وهو يكتب شيئاً ما.. وكانت دمشق في إحدى ليالي الصيف في تلك الثمانينات مدينة لقائي بالروائي الأردني غالب هلسا. ليلة كاملة حتى طلوع الفجر.. تماماً مثل «ليلة لشبونة».. واليوم، ماتت روح «الهافانا»، كما ماتت أرواح مقاهٍ أخرى من بغداد إلى بيروت إلى دمشق إلى عمان، ولم تستطع هذه المقاهي أن تصغر فيما يكبر الزمن، بل كبرت مع الزمن واحدودب ظهرها.. كما احدودب ظهر الشاعر السبعيني أو الستيني الذي كان متفائلاً بأنه سوف يحرر فلسطين بقصيدة تفعيلة واحدة.
كانت تلك المقاهي مملوءة بالأحلام والتفاؤلات.. صور جيفارا كانت على الجدران، إلى جانب ملصقات وقصائد ولوحات تفيض بالقوة والأمل، ولا تنسى الكلمات الكبيرة آنذاك.. مثل: الحرية، الديمقراطية، وتلك الكلمة التي لا أفهمها حتى الآن: «البروليتاريا»!!
كل ذلك احدودب ظهره وغزا الشيب رأس الشاعر ومرضت الحرية بفقدان الذاكرة، ومازالت فلسطين لم تتحرر بمئات، بل آلاف قصائد التفعيلة.

يوسف أبولوز
y.abulouz@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى