الهنوف الزعابي
بينما كُنتُ أتَجَولُ في بَساتينِ أُمّي وحبيبتي لُغَة الأَدب، أَرْتَمي في أَحْضانِها بعدَ جُهدٍ و تعب، وابتَغي فيها كُلَّ حاجةٍ وَ إِرْب، أروي ظمَأَ الفكر مِنْ معينِها، وَ أَشُمُّ عبيرَ الوَردِ من مَعانيها، وأُشْبِعُ جوعَ الثَّقافَةِ من لذيذِ ثِمارِها، إذ بأَلْوانِ الزُهورِ فيها تُلْهيني، وأَصْواتُ العَصافيرِ منْها تُغريني، ونَشْوَةُ الإِنْتِماءِ إليْها تأْخُذُ بِتَلابيب قَلبي، فلا تَسَلْ عن شُعوري بِمَدى التَّقْصيرِ تِجاهَها، فَلَطالَما نَسيتها أَوْ تَناسيتها، وظَنَنْتُ أنَّ غيْرَها أَحْلى منْظَراً ، وأَنْقى مخبراً، وأَسْهَلَ مَعْبَراً، فَهِمْتُ فيما يَهيمُ فيهِ سائرَ النّاس، وأَخْطَأتُ عنْدَما جَعَلْتُ السّاقَ كالرَّأْس، وقُلْتُ في نَفْسي: ليْتَ الزّاهِدينَ يَدْخُلونَ هذِهِ الخَميلة، ويسْتَمْتِعونَ بِتَفاصيلِها الجَميلة، فَبِها تتغذّى العُقول، وتُثْرى النُقول، وَيَتَزَيّنُ الحَرْف، ويَحْتارُ من جَمالِها الطّرْف، وتَجمُل عنْدَها التَّعابيرُ وَ الجُمَل، ويَسْتَعْذِبُها السَّمْعُ وَ البَصَر، فَلا تُكْرَه ولا تُمَّل، فَما بَيْن السِّباحة في بُحور الشّعر و دَواوينه، إلى الطَيران بينَ سحائِب التَّصْويرِ البَلاغِيِّ وَ فُنونه، إلى السَّيْرِ في أَنْحاءِ النَّحْوِ المُمْتِع وجُنونه، “بلاغة”و”بَديع”و”بَيان” في السَّماءِ رَفيعْ.فَلَيْتَني شَبِعْتُ منُ في صِغَري لِأَجْني ثِمارَهُ في كِبَري، ولكنّي اكْتَفَيْتُ باقْتِباساتٍ عَلى عَجَلْ، ورَشْفَةَ مُسافِر يُمَنّي نَفْسَهُ بِرُبَمّا وَ لَعَلْ، ورُغْمَ ذلِكَ النّدى اليَسير الذي رَشَفْتُه، والسّر الصَغير الذي كَشَفْتُه، إلاّ أنّي أَحْسَسْتُ بِسَعادَةٍ غامِرة، وفَرْحَةٍ عامِرَة، لا زالت معي حيْثُ كُنْت، فَكَيْفَ بِمَنْ غاصَ في عَميقِ بُحورِها، وتنعّم بِجَميلِ حورِها، واسْتَضاءَ منْ ساطِعِ نورِها، فَهَنيئاً لِمَن التَفَتَ لِلُغَتِهِ العَرَبِيَّة، وقادَ سَرايا فِكْرِه بَيْنَها سريه سريه، ورَحِمَ اللّه الشّاعر الأَديب علي الجارم القائل:وحببوا لغةَ العُرْب الفصاحَ لَهُم/ فَإِنَّ خُذلانَها للشّرْقِ خُذْلانُ ……فَعُذْراً لُغَتي الأُمُّ الحَنونُ على تَقْصيري،،
زر الذهاب إلى الأعلى