قضايا ودراسات

الأثرياء لا يقرؤون التاريخ

أمريكا هي أرض الأحلام والفرص والثراء، والحاضنة الأكبر للأغنياء في العالم. وتقول إحصائيات «وكالة بولمبرج» الاقتصادية إن اثنين من كل خمس مليونيرات أو مليارديرات في العالم يعيشون في الولايات المتحدة.
هذا الوجه البراق من الصورة لا ينفي أو يلغي وجود جانب آخر قاتم بفعل حقيقتين مهمتين الأولى أن الثروات الطائلة لا يتمتع بها سوى قلة محدودة من الأمريكيين. والثانية أن تلك البلاد ليست الجنة الموعودة. فكما هي ملاذ الأغنياء فإنها كذلك ملجأ للفقراء والمهمشين.
خلال الأسبوع الماضي نشرت مجموعة بوسطن الاستشارية، المتخصصة في الأبحاث المالية، تقريرها السنوي عن الثروة في العالم. أشار التقرير إلى استمرار وتفاقم الخلل الجسيم في توزيع الثروات، والفجوة الهائلة بين ما تملكه القلة العددية وما يملكه السواد الأعظم من البشر. ويقدر التقرير حجم النخبة الثرية بنحو 18 مليون أسرة أو نحو 70 مليون إنسان في العالم يمتلك كل منهم مليون دولار فأكثر. ولا يمثل هذا العدد سوى 1% من تعداد البشر على وجه الأرض ومع ذلك فإنهم يمتلكون 45% من الثروة الخاصة والتي قدرها التقرير بنحو 166,5 تريليون دولار.
في الحالة الأمريكية يتجسد الخلل على نحو أكثر وضوحاً حيث تمتلك النخبة الثرية 63% من الثروة الخاصة للدولة. ومن المتوقع أن يستمر هذا الوضع المفتقد للعدل ليصل إلى ذروته عام 2021 عندما يتعاظم ثراء هذه النخبة لتستحوذ على 70% من ثروات البلاد.
وتعزو الدراسة الخلل الفادح والفاضح في توزيع الثروة إلى السياسات التي اتبعتها الإدارات الأمريكية المعاقبة منذ الحرب العالمية الثانية. وبسبب تلك السياسات أزداد الأغنياء ثراء، بينما تجمدت أجور الطبقة الوسطى، وقبع الباقون في قاع المجتمع. وفي هذا القاع المعتم يبدو الوضع بائساً وربما مدهشاً لمن لا يعرف الجانب الآخر من الولايات المتحدة. الأرقام الرسمية تفيد بوجود 43 مليون أمريكي فقير يمثلون 13,5% من تعداد السكان وفقا لإحصائيات 2015.
ويضع الخبراء الاقتصاديون حدوداً مالية لتعريف مستويات الفقر. ومن يقل دخله عنها يعتبر فقيراً لأنه عندئذ لا يستطيع توفير احتياجاته الأساسية. على سبيل المثال فإن الأعزب الذي يبلغ دخله السنوي 12 ألف دولار فأقل يعتبر فقيراً. وبالنسبة للأسرة من فردين فإن الحد هو 15 ألف دولار. والأسرة من أربعة أفراد 24 ألف دولار.
ووفقاً لهذا المقياس الذي يراعي مستويات الأسعار المحلية فإن 12,3% من الرجال و14,8% من النساء فقراء. وهناك 15,8 مليون أسرة لا يحصل أفرادها على احتياجاتهم الضرورية من الغذاء. أما الأطفال فتلك قصة أخرى أكثر إيلاماً. الأرقام الرسمية تشير إلى أن 13 مليون طفل أمريكي على الأقل يعانون بصورة أو أخرى نقص الطعام.
وقبل أيام نشرت المنظمة الدولية لحقوق الطفل تقريرها السنوي حول حالة الطفولة في العالم جاء فيه أن النرويج هي جنة الأطفال على الأرض أي أفضل دولة يتمتع فيها الأطفال بحقوقهم. فيما حلت الولايات المتحدة في المركز السادس والثلاثين.
قد لا تؤرق هذه المعلومات الأثرياء الأمريكيين الذين تشغلهم أموالهم عن متابعتها أو الاهتمام بها. إلا أن الكاتبة الأمريكية ويتني ويب ترى أن تلك الغفلة ستكون مدمرة للطبقة الثرية الأمريكية إذا احتكمنا إلى التاريخ كمؤشر ومرآة للمستقبل. وفي مقال نشرته في موقع «مينت برس» قالت إن التاريخ يؤكد إن المجتمعات التي تعاني خللاً جسيماً في توزيع ثرواتها كما هو الحال في أمريكا تكون غير مستقرة وأكثر من غيرها عرضة للفشل الاقتصادي والانهيار الاجتماعي.
وتشير إلى حقيقة جاءت في دراسة أجراها المركز الوطني للتحليل البيئي الاجتماعي عام 2004 وهي أن الاستهلاك الفائق والخلل في توزيع الثروة من أهم العوامل التي ساهمت في انهيار كل الحضارات خلال الخمسة آلاف سنة الماضية. والوضع الذي تعيشه أمريكا حالياً مرت به الإمبراطورية الرومانية قبل سقوطها حيث كان 1% من مواطنيها يمتلكون 16% من ثرواتها.
المثير للاهتمام هنا أن نفس النسبة من النخبة الأمريكية تستأثر بالثروة. غير أن نسبة ما تمتلكه تفوق بكثير ما استحوذت عليه نظيرتها الرومانية. وإذا أنصت الأثرياء الأمريكيون لدرس التاريخ واستوعبوا حكمته فلابد أن يدركوا أنه حان وقت القلق.

عاصم عبد الخالق
assemka15@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى