الأعمال الخيرية .. واستغلالها
تأليف: دانييل رافنتوس وجولي وارك
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
تصبح الأعمال الخيرية عديمة النفع إذا ما قدمت بطريقة تخدم الغايات السياسية، أو كانت غطاء على قضايا فساد، أو شكلاً للتهرب من الضرائب بالنسبة للشركات. للجمعيات والمؤسسات الخيرية الأمريكية والأوروبية قصص بعيدة عن الأضواء، تخفي وراءها قضايا كبرى تضرّ بالعدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة بشكل متساوٍ. يحاول هذا الكتاب أن يكشف خبايا الجمعيات والأعمال الخيرية المرتبطة بالسياسيين والمشاهير، ويقدّم وجهة نظر بشأن كيفية تقديم الدعم للمتضررين والمحتاجين في العالم.
في كتابهما «ضد الأعمال الخيرية» يقدّم الكاتب الإسباني دانييل رافنتوس والمترجمة الأسترالية/الإسبانية جولي وارك تحليلاً متعدد الجوانب لفكرة العمل الخيري الذي يستهدف المنكوبين وضحايا الحروب والكوارث الطبيعية والبيئية. يفنّد الكاتبان مفهوم الإحسان أو العمل الخيري من الجانب الفلسفي والاجتماعي والاقتصادي. ويقدمان رؤى تبدو للبعض صادمة حول واقع مسكوت عنه تغطيه الحملات الدعائية وتتستر عليه بروباجندا مدروسة تضيع معها المضامين الحقيقية للعمل الخيري.
يتألف الكتاب من جزأين؛ الأول «مشكلات» ويشمل مقدمة وثمانية فصول، والثاني «حل جزئي» ويضمّ فصلين. أما المقولة الرئيسية في الكتاب فتدور حول أهمية فهم أن العمل الخيري ليس هبة بقدر ما هو وجه من وجوه الليبرالية الجديدة.
العمل الخيري: الأصل والواقع
يكتب المؤلفان في المقدمة: «تعدّ كلمة لطيف، أو رؤوف kind ذات أصل جرمانيّ وترتبط بمعنى kin قريب أو نسيب. كان المعنى الأساسي للكلمة مرتبطاً بخاصية طبيعية أو فطرية، فبات، بالتالي، يعني طبقة متمايزة بخصائص موروثة، أو كما سيكون في القرن الرابع عشر، صفات مرتبطة بالكياسة أو الأفعال النبيلة التي تعبر عن المشاعر التي يكنها الأقرباء تجاه بعضهم. ثمة حسّ بالمساواة متضمن داخل هذه الكلمة، هناك أيضاً شيء من التآخي والاحترام.
أما الأعمال الخيرية، بمفهومها وشكلها المؤسساتي على الأقل، فقد تركت وراءها جميع تلك المعاني المبكرة مثل «الاستعداد لفعل الخير» و«المشاعر الخيّرة، والنية الطيبة والكياسة» لتأخذ بدلاً منها شكلها الحالي القائم على العلاقة بين مانحٍ ومتلقٍ، وهي تفتقد للمساواة على اعتبار أن المتلقي ليس في موقع من يمكنه القيام، أو الرد، بالمثل. لكنها مع ذلك لا تزال تظهر عادة كرأفة، وهذا يكون في الغالب طريقة لتغطية التفاوت القاسي المبنيّ داخل هذه العلاقة.
لهذا، مثلاً، كتب جاك لندن يقول: «العظمة التي تلقيها للكلب ليست بعمل خير. عمل الخير هو أن تشارك العظمة مع الكلب، عندما تكون جائعاً مثله».
فجوة طبقية واجتماعية
يشدد الكاتبان على الحاجة لوجود نظام اجتماعي عادل تنتفي فيه الحاجة للعمل الخيري فيكتبان: «النوع الأكثر شيوعاً من الأعمال الخيرية هو ذلك الذي أصبح مؤسساتياً، وهو الذي يكتب عنه الكاتب النيجيري تشينوا أتشيبي في روايته «كثبان النمل في سافانا»: «بينما نقوم بالعمل الخيري، دعونا لا ننسى بأن الحل الحقيقي يكمن في عالم تصبح الأعمال الخيرية فيه غير ضرورية» ومع ذلك، فقد أصبحت الكلمة الفاعلة في السياسة هي «التفرقة»؛ الفجوة الكبيرة بين شديدي الثراء الغالبية وذوي الفقر المدقع، والتفرقة بين الرجال والنساء، والمواطنين واللاجئين، البيض والسود، نشوب النزاع بين مجموعة إثنية وأخرى، دين ضد الأديان الأخرى، «التقدم» ضد الكوكب، الخاص ضد العام، وهكذا دواليك. أما الحكومة، ولا سيما إدارة ترامب، فإنها تحرض على التفرقة لصالح قلة قليلة ممن يمتلكون السلطة، ما يؤدي إلى حرب صريحة ضد المجال الشعبي، الشعب ذاته، والخير العام. وبهذا، فإن الأعمال الخيرية المؤسساتية تعزز من قوة أصحاب الملايين المتخففين من عبء الضرائب الذين يوزعون إحسانهم على مشاريع تعود عليهم بالفائدة، مما يزيد من هوّة هذه الفجوة.
عنوان كتابنا هو ضد الأعمال الخيرية، لكن يمكن له، بشكل مساو، أن يكون «من أجل الرأفة»، وسيكون بالتالي دعوة لحقوق الإنسان العالمية ومبادئها الثلاثة العظيمة؛ الحرية، والعدالة، والكرامة. ربما بإمكان أيّ كان أن يقول إنه يطمح لامتلاك هذه المبادئ والتمتع بها، لكنها في الواقع لا تُعطى عبر الإحسان والأعمال الخيرية، لأن المساواة والتآخي خصائص أساسية بذاتها.
المشاهير والعمل الخيري
إذا نظرنا لمسألة الأعمال الخيرية من ناحية الشخصيات الشهيرة (celebrity)، فإنها لا تزال تأخذ توجهاً معقداً أكثر وغريباً في بعض الأحيان. يبدو الجدال حول الغيرية مراوحاً بين لماذا يهتم الناس (عموماً، دون النظر بشكل جدي إلى حقيقة أن الأثرياء يتباهون بمظهر الغيرية بينما قد يكون الأشخاص العاديون أسخياء أو رؤوفين لكن لا يعلم كثير من الناس بذلك) بالآخرين على حساب مصالحهم الشخصية. لكن ثمة أسئلة أخرى. منها مثلاً، يعطي شديدو الثراء جزءاً صغيراً من ثرواتهم، فلماذا يشعرون بأنهم مكلفون بامتلاك ما يزيد عن حاجتهم بكثير؟ لماذا يتسامح المجتمع معهم، بل ويقدسهم؟
يكمن أحد الأجوبة على ذلك في أن هذه هي النيوليبرالية الصلبة، والتي ترتبط بالنزعة الاستهلاكية. بدورها، تحتاج النزعة الاستهلاكية إلى الدعاية، وهذا ما يقوم به بعض المشاهير، الإحسان وعمل الخير ليس بغية إفادة الجنس البشري، وإنما كنوع من التسويق الذاتي.
اقتصاد القطاع غير الربحي
يعد القطاع غير الربحي اليوم ثامن أكبر اقتصاد في العالم، بوجود 19 مليون موظف يتقاضون الرواتب. ينخرط الكثير منهم في مجال العمل الإنساني والإغاثي حين تستمر الأزمات لوقت أطول، وتكون الحاجات متزايدة بسرعة كما في حالة التغير المناخي، والاقتصادات المنهارة والصراعات المميتة في أنحاء عديدة من العالم.
يعلق الكاتبان هنا: «هناك الكثير مما يمكن انتقاده في طريقة عمل المنظمات غير الربحية الكبيرة والصغيرة في مجال العمل الإنساني، لكن اهتمامنا هنا لا ينصب على انتقاد أفعالها أو أفعال عمال الإغاثة الأفراد ممن تكون، غالباً، دوافعهم حميدة في الأصل». ويضيفان: «لكننا نركز على العمل الإنساني كنوع من الأعمال الخيرية التي تعمل ضمن أنظمة جائرة وتنتج إقطاعية من المنح السخية. لكن إذا كان هذا القطاع ضخماً لهذا الحد، فلماذا لا نرى الأشخاص الذين يفترض أن يخدمهم هذا القطاع ظاهرين كثيراً في وسائل الإعلام؟».
تسييس الأعمال الخيرية
يبدو جلياً أن دونالد ترامب، الذي قال في إنديانابوليس في 28 أبريل/نيسان 2016: لدينا الكثير، الكثير من الدول التي نعطيها المال الوفير، ولا نحصل مطلقاً على أي شيء في المقابل، وهذا سيتوقف سريعاً»، لا يفهم المبدأ الأساسي للأعمال الخيرية، فهي ليست هبة، ومع ذلك فإنه يدعي أنه محسنٌ متحمس ومحب للخير – وهو وصفٌ أزيل من السيرة الذاتية المنشورة على الموقع الرسمي لمؤسسة ترامب في أواخر عام 2016، قبل انتخابه رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. ويدعي أنه منح شخصياً مبلغ 100 مليون دولار للأعمال الخيرية خلال السنوات الخمس الماضية. لنقل إن الأعمال الخيرية من اختصاص مؤسسة دونالد جيه ترامب، وهي مؤسسة خاصة غير ربحية بموظفين غير مدفوعي الأجر. لكن في واقع الأمر، فإن الصحفي الحائز على جائزة بوليتزر ديفيد فارنتولد من صحيفة «واشنطن بوست» قد توصل في استقصاءاته إلى أن ترامب لم يتبرع بسنت واحد لمؤسسة دونالد جيه ترامب منذ عام 2008. بل إنه ببساطة يجتذب الأموال من الآخرين، وهو يعرف أن هذا غير قانوني على اعتبار أن المؤسسة غير مسجلة لتلقي مساهمات بهذه الطريقة.
هذه المؤسسة «العائلية» غير الاعتيادية تتلقى كل أموالها تقريباً من أشخاص آخرين. كانت الطريقة بسيطة. إذ ذهب دونالد ترامب إلى مؤسسة تشارلز إيفانز الخيرية في نيوجرسي، وطلب منهم تبرعاً لمؤسسة شرطة بالم بيتش. جمعت المؤسسة الخيرية مبلغ 150 ألف دولار وقدمته لمؤسسة دونالد جيه ترامب التي «تبرعت» به لاحقاً لمجموعة الشرطة التي تحمل اسم المؤسسة. يصبح الأمر أفضل عندما نعرف أن دونالد ترامب قد تلقى عام 2010 جائزة من مؤسسة شرطة بالم بيتش تقديراً منهم ل «دعمه الخيريّ». كما عقدت المؤسسة احتفالها في منتجع Mar -a- Lage الذي يملكه ترامب. وفي عام 2014، كشفت التقارير الضريبية أنهم دفعوا 276.436 ألف دولار لاستئجار المكان في تلك السنة وحدها.
وبحسب تحقيقات لوكالة أسوشيتد برس، فإن مؤسسة إريك ترامب (ابن دونالد ترامب) تستفيد من الأعمال الخيرية المرتبطة بعائلة ترامب وأفراد من مجلس الإدارة. إذ لوحظت دفعات مالية محوّلة باستمرار إلى أحد نوادي الجولف الخاصة المملوكة لدونالد ترامب ولمنظمات مرتبطة بعائلة ترامب من خلال المؤسسات أو العائلة أو العلاقات التي تدور حول المنح الخيرية.
ووفقاً لتقارير دائرة الإيرادات الداخلية، فقد جمعت مؤسسة إريك ترامب 7.3 مليون دولار بحجة دعم الأطفال المصابين بالسرطان، وجمع المبلغ بشكل رئيسي من مانحين ومتبرعين حريصين على التعامل مع عائلة ترامب (مثل الأشخاص الذين دفعوا 50 ألف دولار مقابل دعوة رباعية للعب الجولف والاستمتاع بالعشاء في حفل جمع أموال للمؤسسة عام 2015).
«بزنس» الصناديق الخيرية
أما رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، فيفترض بمؤسسته الخيرية التي أصبحت تسمى الآن «غير الربحية»، أن تكون مكرسة للأعمال الخيرية المستقلة، مع وجود بلير كراع غير تنفيذي. لكنه كان حاضراً على الدوام كشخصية «سوبر ستار» تجذب الممولين المحتملين، حاصلاً على ملايين الجنيهات الإسترلينية من تبرعات أفراد أثرياء، والحكومة الأمريكية وحتى اليانصيب السويدي.
ثم هناك رجل الأعمال الأوكراني الكبير فيكتور بينتشوك، الذي منح مؤسسة توني بلير الخيرية مبلغ 320 ألف جنيه استرليني بغية مساعدة «الناس على فهم الدور الرئيسي الذي يلعبه الدين داخل المجتمع». كما منح بينتشوك 150 ألف دولار لمؤسسة ترامب، وبعده قام ترامب بمداخلة عبر الفيديو في منتدى «استراتيجية يالطا الأوروبية» السنوي عام 2015، وشدد فيه على ضرورة أن تتخذ الولايات المتحدة تدابير أشدّ في تعاملها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كما قدّم 8.2 مليون دولار لصندوق مؤسسة كلينتون، لتستضيفه لاحقاً وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون على العشاء.
ويشدد المؤلفان على الدور الكبير الذي يلعبه صندوق مؤسسة كلينتون الخيرية، التي ترتبط من خلال علاقات متينة مع عشرات رجال الأعمال النافذين والشركات الخاصة والشركات الحكومية وأخرى غير الحكومية لدعم الصندوق، وتلقي منح وهدايا بملايين الدولارات. وهي مبالغ يصفها الاقتصادي الأمريكي مايكل هدسون بأنها مخبأة في مرأى من أعين الجميع.
ففي عام 2001، إبان نهاية فترة رئاسة بيل كلينتون الثانية في البيت الأبيض، ادّعت المؤسسة، طبعاً، بأنها تستهدف «الحدّ من الفقر، وتطوير الصحة العالمية، وتقوية الاقتصادات، وحماية البيئة». لكن ما حصل في الواقع، أنه بحدود نهاية عام 2014، وصل مجموع أرصدة الصندوق ل 354 مليون دولار. أما أفراد عمل المؤسسة البالغ عددهم 486 شخصاً في 180 دولة فلم تكن لديهم سوى معرفة ضئيلة، أو معدومة، في العمل التنموي.
نبذة عن المؤلفين
– دانييل رافنتوس:
كاتب واقتصادي إسباني، يعيش في مدينة برشلونة. له عدد من المؤلفات منها: «الدخل الأساسي: الشروط المادية للحرية».
– جولي وارك:
هي كاتبة ومترجمة أسترالية تعيش في برشلونة. لها كتاب سابق بعنوان «بيان حقوق الإنسان».