قضايا ودراسات

الاستراتيجية الأمريكية الغائبة في سوريا

لا تشعر الإدارة الأمريكية بالقلق، ولا تنتابها الشكوك والهواجس، إزاء نتيجة المعركة الحالية مع «داعش» في سوريا. طرد التنظيم من معقله الأخير في الرقة بات محسوماً، ولكن ما يلي ذلك غير معروف ولا محسوم، ويستحق القلق والحذر.
ليس للولايات المتحدة، حتى الآن، استراتيجية واضحة ومعلنة لمرحلة ما بعد هزيمة «داعش». لم يطرح الرئيس ترامب خطته لتدمير «داعش»، والتي كان قد وعد خلال الحملة الانتخابية بإعلانها بعد شهر من توليه السلطة. ومنذ أكثر من شهر وعد مرة أخرى بعقد مؤتمر صحفي، يتحدث فيه عن نفس الخطة، ولم يحدث ذلك أيضاً. قد لا يكون هذا مهماً، الآن، بعد أن اقتربت المعركة من نهايتها. غير أن الانتصار العسكري الوشيك لن ينهي المشكلة الأكبر، وهي الحرب في سوريا.
مازالت الإدارة الأمريكية تتعامل مع الأزمة السورية بكل تعقيداتها بدون استراتيجية واضحة تتصدى للقضايا الصعبة، وفي مقدمتها التوصل إلى تسوية شاملة من خلال مفاوضات جادة تشارك فيها الأطراف المتصارعة، بما فيها القوى الدولية والإقليمية المتورطة في الحرب.
غير أن هذا الهدف يصطدم بموقف أمريكي غامض من قضية جوهرية هي نظام الحكم الجديد في سوريا، وقبله تحديد مصير الأسد. خلافاً للرئيس السابق، أوباما، لم يصرح ترامب قط بأنه يريد رحيل الأسد. وللمسؤولين الأمريكيين تصريحات متضاربة حول هذه المسألة، ما يزيد الموقف غموضاً. فضلاً عن ذلك لا توجد بالفعل مبادرة أمريكية متماسكة لإطلاق عملية السلام. أما اللقاءات التي تشارك فيها بالتنسيق مع روسيا، سواء في أستانة أو جنيف أو غيرهما، فليست أكثر من مشاركات دبلوماسية رتيبة لم ولن تسفر، في أفضل الأحوال، سوى عن ترتيبات جزئية مؤقتة، وليس اتفاق سلام شامل.
ثمة قضايا أخرى جوهرية غائبة تماماً عن الرؤية الأمريكية للتعامل مع الأزمة السورية مثل إعادة الأعمار، وإدارة المرحلة الانتقالية، وتخفيف الاحتقان الطائفي، وإعادة توطين اللاجئين، وإقامة المناطق الآمنة، وتمويل ذلك كله بما فيه العمليات الإنسانية، والتعليم والصحة والإعاشة والتوظف وغيرها. يضاف إلى ذلك مشكلة شائكة أخرى تتعلق بمصير القوات الأجنبية على الأراضي السورية، بما فيها القوات الأمريكية نفسها.
ولكي تتخذ واشنطن قراراً بشأن مستقبل وجودها العسكري في شرق سوريا، عليها أن تحدد أولاً ما هو الهدف من هذا الوجود. وتلك بدورها مسألة تثير الانقسام داخل الإدارة. هناك فريق يرى أن الهدف الأساسي للقوات الأمريكية هو القضاء على «داعش»، وبالتالي فلا مجال لبقائها أو تغيير أو تطوير مهامها بعد ذلك.
تتبنى هذا الموقف وزارتا الدفاع والخارجية. وخلال الأسبوع الماضي أعلن وزير الدفاع، جيمس ماتيس، أن هزيمة «داعش» هي الهدف الوحيد لقواته في سوريا، محذراً من الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع إيران أو التورط في الحرب الأهلية.
في المقابل يضغط فريق الصقور في البيت الأبيض في اتجاه التصعيد ضد إيران لاحتواء خطرها وتقليص نفوذها، الأمر الذي يتطلب التوسع في حجم الوجود العسكري في سوريا وسائر المنطقة. وهم يعتبرون أن الانسحاب بعد هزيمة «داعش» سيكون كارثة استراتيجية حقيقية. من ناحية لأنه سيترك القوات الكردية الحليفة لقمة سائغة تفترسها القوات الإيرانية والسورية وحتى التركية.
ومن ناحية ثانية، فإن الفراغ الذي ستتركه القوات الأمريكية يمثل دعوة مجانية للإيرانيين للتقدم وتحقيق حلمهم بإقامة رأس جسر بري في شرق سوريا، يربط أراضيهم عبر العراق وصولاً إلى سواحل البحر المتوسط ولبنان. كما أن الانسحاب الأمريكي يعطي ضوءاً أخضر لروسيا، بأن الطريق أصبح مفتوحاً أمامها للتمدد شرقاً من سواحل المتوسط، حيث قواعدها البحرية وصولاً للحدود العراقية.
يفسر هذا الانقسام العميق داخل الإدارة، لماذا يقف ترامب حائراً وعاجزاً عن طرح مبادرات أو إعلان استراتيجية واضحة لبلاده في سوريا. غير أن الانتظار لا يبدو في المقابل خياراً ممكناً أو مقبولاً أمريكياً أو إقليمياً أو دولياً. الأوضاع المتفجرة والتطورات المتسارعة لن تسمح لترامب بمزيد من التردد.

عاصم عبد الخالق
assemka15@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى