قضايا ودراسات

الاستفتاء الكردي والمعضلة الإقليمية

د. عصام نعمان
هزمت بريطانيا وفرنسا السلطنة العثمانية في الحرب العام 1918. أعلن مصطفى كمال أتاتورك وفاتها بإقامة الجمهورية في تركيا العام 1924. اختلف الورثة من تركٍ وعرب وكرد على حصر إرثها وتقاسم تركتها ومازالوا. المفارقة أن «قاتلي» السلطنة تولّيا، من خلال مؤتمرات ومعاهدات نظّماها، تحديد هُويات الورثة وعددهم وحصصهم الإرثية. أقرّا للترك دولةً في برّ الأناضول. اصطنعا للعرب بضع دويلات في بلاد الشام وبلاد الرافدين. وعدا الكرد بدولة في مفاوضات معاهدة سيفر 1920، ثم أنكراها عليهم لاحقاً. منذ ذلك التاريخ تدير دول أوروبا، ومعها أمريكا، نزاعاً متمادياً بين ورثة شرعيين وآخرين مفترضين للإرث العثماني التليد.
الكرد كانوا ومازالوا ساخطين على ما انتهت إليه قسمة التركة العثمانية: أغلبيتهم أُبقيت في تركيا الكمالية. أقليتهم جُعلت من نصيب العراق وسوريا. أما من كان منهم يعيش خارج السلطنة العثمانية، فقد أُلحِق بالكيانات السياسية القائمة وأهمها إيران.
دول الغرب قررت، إذاً، مصير الكرد. ليس مصير الكرد فحسب بل مصير الترك والعرب والأرمن أيضاً، وهي مازالت تتلاعب بمصائر هذه الأقوام بقدر ما تتيحه موازين القوى الدولية. في هذا المجال، نشأت مفارقات لافتة. فالترك الذين أسقطت أوروبا إمبراطوريتهم وتصرفت بِ «ممتلكاتها» انحازوا إلى دولها في الصراعات الدولية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية 1939- 1945 . والعرب الذين كانت بريطانيا وعدت الشريف حسين الهاشمي بدولة تضم الولايات العربية المطلوب سلخها عن السلطنة العثمانية أُحبِطوا فارتضى بعض قادتهم نصيبه من التركة التي جرى تقاسمها، واعترض بعضهم الآخر. أما جمهورهم الأوسع فكان ومازال يتوق إلى إقامة دولة واحدة تضم الشتات.
اليوم يعود بعض الكرد بقيادة مسعود البرزاني إلى طرح مسألة حق تقرير المصير، ليشارك فيه سكان المناطق العراقية الواقعة تحت سلطة قواته (البيشمركة). الدول الحاضنة لسكانٍ أكراد (تركيا، العراق، سوريا، إيران) رفضت مشروع الاستفتاء، كما أن الولايات المتحدة أعلنت رفضها له أيضاً. بعض هذه الدول رفض مبدأ الاستفتاء وطلب إلغاءه. بعضها الآخر طلب تأجيله. البرزاني أعلن تمسكه بإجرائه في موعده، مع أن قوى سياسية كردية عدّة تعارض إجراءه في الوقت الحاضر. إلى أين من هنا؟
يرسم إصرار البرزاني على إجراء الاستفتاء، رغم المعارضة الدولية الواسعة، علامة استفهام كبيرة. ذلك أن القيادات الكردية المتعاقبة حرصت بعد الحرب العالمية الثانية على التعاون مع دول الغرب، ولا سيما بريطانيا والولايات المتحدة، والانخراط في مخططاتها وسياساتها وحروبها، لدرجة حملت بعض معارضيها في العراق على تسميتها «تاكسي الدول».
يرى بعض المراقبين أن البرزاني يناور ولا يصادم، وأنه يحاول استغلال حال الاضطراب والفوضى التي يعيشها العراق، وحال الشجار والاختلاف التي تمر بها الدول الإقليمية والدول الكبرى، كي يعزز مركزه التفاوضي إزاء حكومة بغداد بغية إكراهها على تقديم تنازلات في مسألتين رئيسيتين: إقرار «حق» الأكراد في محافظة كركوك وفي المناطق المتنازع عليها في محافظات نينوى وصلاح الدين وديالى التي تضع البيشمركة يدها عليها، وتكبير حصة إقليم كردستان في ميزانية الدولة الاتحادية وفي عوائد النفط المستخرج من منابعه في الإقليم المذكور.
قد يتوصل أطراف النزاع إلى تسويةٍ للخلاف بالتوافق على مصطلح دبلوماسي يؤمّن مخرجاً ولو مؤقتاً من حال التأزم والحرج، أو قد يُترك البرزاني لمصيره في تنفيذ استفتاءٍ لن يكون له في الظروف الراهنة أي مفعول أو مردود إيجابي. لكن سؤالاً مصيرياً يبقى مطروحاً وضاغطاً على جميع أطراف الصراع: كيف يمكن الخروج من المعضلة التاريخية؟
المعضلة التاريخية هي حاجة جميع أقوام السلطنة العثمانية المهزومة إلى تقرير المصير من جهة، ومن جهة أخرى ضرورة ألاّ يمارس كلٌّ من هذه الأطراف حقه في وجه الآخرين وعلى حسابهم. فالعرب والكرد والترك وغيرهم من الأقوام لهم الحق بتقرير المصير الذي مارسته عنهم عَنوةً بريطانيا وفرنسا، غداةَ انهيار السلطنة العثمانية باصطناع كياناتٍ سياسية هشة، وقيامهما بتوزيعهم عليها اعتباطاً فيما بينها وفي داخلها.Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى