قضايا ودراسات

الاستهلالات

د. حسن مدن

يعمد بعض الكتاب إلى استهلال مقالاتهم أو فصول كتبهم بفقرات أو عبارات أو أبيات شعرية لكتاب وشعراء آخرين يرون أنها توجز أو تكثف في كلمات قليلة مغزى ما سيكتبونه في أسفلها، فتغدو هذه الاستهلالات بمثابة مفاتيح لولوج الكتابة التالية لها، العائدة للكاتب الذي انتقى بعناية، أو هكذا يفترض، تلك الاستهلالات.
من بين هؤلاء الكتاب المفكر المغربي عبدالفتاح كليطو، الذي قال في حوارٍ مطول معه إن زبدة كتبه موجودة في تلك الاستهلالات، لدرجة أنه حين اضطر للكلام عن نفسه، ذات مناسبة، اكتفى بأن قرأ تلك الاستهلالات، لأنه لم يجد ما يقوله عن نفسه، كما أوضح. وقد استحسن المستمعون ذلك لأنه قرأ الاستهلالات بالتتابع، فكأنه بذلك رسم نوعاً من تسلسل مساره الفكري.
مريم عاشور، المرأة التي حاورت كليطو، سألته: لماذا إذن، والحال كذلك، تلزم قراءة كتبك كاملة طالما كانت زبدتها في هذه الاستهلالات، فأجاب بأنه يمكن الاقتصار عليها إلى حدٍ ما، «لكن ما يثير الدهشة هو أن معظم القراء لا يقرؤونها، فقط قلة من العارفين هم الذين يفكون شفرات اللغز الذي تنطوي عليه».
على صلةٍ بذلك، حتى لو لم نكن نرغب في استهلال ما نكتب بعبارات أو أبيات شعر كتبها آخرون، أو حتى لو لم نكن كتاباً في الأساس، وإنما قراء شغوفون بالقراءة فقط، ما أكثر ما تستوقفنا عبارات أو جمل في الكتب التي نقرأها، فنسارع إلى القلم نضع تحتها خطوطاً، كي نعود إليها ثانية، وأعتقد أن الكثيرين منا لا يقاومون الرغبة في أن تكون بحوزتهم كراريس صغيرة يدونون فيها ما يروق لهم من العبارات، أو التي يجدونها تلامس شغاف قلوبهم، كما يقال، أو تثير في نفوسهم رغبات وأمنيات، أو تحرضهم على أسئلة، أو تفتح لهم آفاقاً للمعرفة.
هل حدث أن سألنا أنفسنا: لماذا من بين مئات الصفحات التي تضمها الكتب بين دفتيها، تستوقفنا عبارات أو جمل أو أفكار، لا نقوى، ولفرط جمالها، على مقاومة الرغبة في تدوينها في كراس أو على ورقة، أو حتى حفظها عن ظهر قلب؟ الأرجح أن ذلك يحدث لأن هذه العبارات تجسد شعوراً ما كامناً في أعماقنا، ربما فكرنا في التعبير عنه، لكننا لم نفلح في تجسيده في الكلمات التي تحيط به، أو قد يحدث أيضاً أننا لم نفطن، من قبل، إلى أن هذا الشعور يتملكنا بشكل خفي، فلا يفصح عن نفسه، فتأتي هذه العبارات – الومضات التي تستوقفنا فيما نقرأ لتصبح مثل الصواعق التي توقظ الغافي في نفوسنا من مشاعر وتأملات، أو تكثف ما تراكم لدينا من خبرات في الحياة في كلمات قليلة، هي بمثابة الحكمة المقطرة من كل ما عشناه وتعلمنا منه.

madanbahrain@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى