قضايا ودراسات

الانفصال المستحيل في اليمن

حسن العديني‫‎‎‬
في أفواه اليمنيين سؤال صعب وفي أذهانهم إجابات ملتبسة. هل انفصال الجنوب عن الشمال وارد؟ علت نبرة السؤال منذ أعلن المجلس الانتقالي الجنوبي الشهر الماضي، وعادت الأجوبة تذهب بالتشاؤم إلى تقطيع البلاد إرباً صغيرة، وهذا بالضبط ما يطمئن إلى إجابة واحدة قاطعة وهي استحالة الانفصال. أولاً لأن اليمنيين لا يريدونه، وثانياً لأن الجوار يخشى تداعياته، كما أن العالم لا يشجع عليه.
إن اليمن ليس جزيرة معزولة ومعلقة في فلك الكون. إنها رقعة مهمة على خريطة الشرق الأوسط، تلاصق الكنز الكبير للطاقة وتطل على ممر مائي يصل البحار والقارات، وتكاد تمثّل مركز العصب الحساس في المنطقة التي تدور عليها المنافسة بين 3 قوى إقليمية وهي إيران و«إسرائيل» وتركيا. وذلك يكفي لأن تمنع الدول المجاورة أي جنون قد يؤدي إلى تمزيقها، واليمنيون أنفسهم لجأوا إلى الجيران كي يفكّوا «الخناقة» بينهم فقبلوا المبادرة الخليجية ووضعوا بلادهم عهدةً في أيدي الدول الراعية لها. يومها لاحت الآمال بتجنيب اليمن حرباً أهلية تكوي وتحرق، فتم نقل منصب رئيس الدولة إلى نائبه، وشكلت حكومة وفاق ولجنة للحوار الوطني مهمتها الاتفاق على معالجات شاملة للمشكلات الوطنية، ووضع تصورات للمستقبل في دستور يؤسس لدولة تتحقق فيها المساواة أمام القانون، ويتأكد التوازن في المصالح والشراكة في الاقتصاد والسياسة.
غير أن هذا اصطدم بسوء النوايا والمقاصد من بعض المشتركين في الحكومة والمشاركين في الحوار، أقصد فرقاء الإسلام السياسي على وجه التحديد. فالحوثيون والإخوان المسلمون كانوا حاضرين في صالات الحوار بالعاصمة ومشتبكين في ميادين القتال خارجها. وكان الإخوان الذين استحوذوا على أهم الحقائب الوزارية وعلى مكتب رئيس الحكومة ينهبون المال العام بالاختلاس والمال الخاص بالرشى. لقد كشفوا عن وحش يلتهم أي شيء في طريقه فأخذوا كل شيء وباعوا كل شيء، الوظائف والعقود التجارية والإعفاءات الضريبية وغيرها مما يخطر على البال وما لا يخطر. وفي وجه الوحش ظهر الجني، فقدّم الحوثي نفسه في صورة المخلص المنقذ، وجاء واستولى على صنعاء وما بعدها حتى سارت الأمور إلى حرب شاملة، تدخلت فيها دول التحالف العربي بطلب من الحكومة اليمنية لمواجهة تدخل إيراني واضح ضد إرادة اليمنيين في إقامة دولة لا تتسيّد فيها أقلية على عموم الشعب. لكن دول التحالف معنيّة ومشغولة مع الدول الراعية للمبادرة بإيجاد الوسائل لإنهاء الحرب وليست مستعدة للسكوت عن قفزة، تضيف إلى تعقيدات الوضع وترفع درجة الخطر على أمن الإقليم واستقرار العالم.
قبل ذلك فإن تقسيم اليمن مرفوض وطنياً برغم مظاهر قد توحي بقراءات سلبية، في حين أنها لا تعبر عن رغبات حقيقية بقدر ما تمثّل شارات احتجاج على ممارسات صاحبت مسيرة الوحدة خلال أكثر من ربع القرن. ومن المهم أن نتذكر أن الذين أعلنوا المجلس الانتقالي جاؤوا من قلب الحركة الوطنية ومن الجيش الذي تخلق في وهج الكفاح ضد الاستعمار. وكانت الوحدة الوطنية مطلب الحركة الوطنية من بواكير نضالها لانتزاع الحرية من المستعمر في الجنوب، واسترداد الكرامة من الطاغية في الشمال. وقد جسدت إيمانها بالوحدة في بناها التنظيمية وفي كفاحها المشترك بالشمال والجنوب.
ولم يكن في حسبان أحد أن تقوم جمهوريتان بعد الاستقلال لولا أن الرياح حرّكت الأشرعة في اتجاهات أطاحت الحلم، فقام انقلاب يميني في صنعاء (نوفمبر 67)، وتسلمت الجبهة القومية يسارية التوجه الاستقلال في عدن، وبدا استحالة التفاهم بين النقيضين. ثم نشأت الصراعات داخل النظامين وبينهما فتتابعت الانقلابات والحروب الشطرية حتى يناير 1986 عندما اطمأنت صنعاء إلى أنها ستتوحد مع شريك ضعيف. ولقد تحققت الوحدة (اندماجية بمبادرة من علي البيض) فعارضها الإخوان المسلمون ونظّموا المسيرات المناهضة بذرائع مختلفة، مرةً لأنها مع الشيوعيين ومرةً لأن مشروع الدستور ينص على أن الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع وليس مصدرها الوحيد، ولم يوفروا في حربهم المنطقة الحرة في عدن، فصوّروها للناس مروقاً عن الدين وضلالاً عن الهدى. بعد ذلك قاموا بالمهمات القذرة في الصراع على السلطة، وظهرت بصماتهم واضحة في عمليات اغتيال كبار قادة الاشتراكي السياسيين والعسكريين. وبدأ التحضير للحرب ونزل الشيخ عبد المجيد الزنداني إلى المعسكرات يدعو للقتال، وأفتى قائد إخواني (عبد الوهاب الديلمي) بأن أبناء الجنوب كفار تجب محاربتهم. أطلق علي عبد الله صالح أيدي القبائل والقوات النظامية والإخوان المسلمين، فنهبوا السلاح والبنوك والمؤسسات والمرافق العامة والمنازل والممتلكات الخاصة وحصل «الإخوان» على ترسانة هائلة من الأسلحة ما زال يمول بها الإرهاب منذ جيش عدن / أبين حتى اليوم.
بعد هزيمة الاشتراكي، تطوّرت استراتيجية التدمير إلى حرب على الجنوب، وتم تجريف الجنوبيين من أجهزة الخدمة المدنية والشرطة والقضاء والقوات المسلحة والسلك الدبلوماسي، في الوقت نفسه تم الاستيلاء على الأموال الثابتة والمنقولة لمؤسسات القطاع العام وتمليكها لشركاء الحرب، ونهبت أراضي وعقارات ومزارع الدولة، وأنشئت شركات النفط والصيد والتعدين المملوكة للرئيس وأقاربه والقيادات الإخوانية، ثم حصلت الإزاحة الكبرى للضباط والجنود الجنوبيين بإحالة عشرات الآلاف منهم للتقاعد، فنشأ الحراك بمبادرة من بعض كبار الضباط، وقد بدأ مطلبياً ثم تحول أمام القمع إلى سياسي، واضطر في بعض الأوقات إلى التلويح بالانفصال، لكن التطورات التي حدثت منذ 2011 جعلته يتراجع عن هذا المطلب، خصوصاً مع مجيء غيلان الحوثي والإخوان الذين يشكلون تهديداً، يجد اليمنيون أنفسهم أمامه معنيين بالدفاع عن بلد واحد، ولكنه خاضع لسلطان القانون والعدل. إن ما أعلن الشهر الماضي هو إشارة احتجاج ودعوة ليمن لا تستأثر فيه جماعة قبلية ولا قوة سياسية على الثروة والسلطة. ذلك ادعى إذا تحقق إلى تأمين وحدة اليمن واستقراره.Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى