التعاون الدولي: النسخة الثانية
نايري وودز *
بعد عشرات السنين من الخدمة بوصفها العمود الفقري للنظام العالمي القائم على القواعد، تروّج الولايات المتحدة الآن، في عهد الرئيس دونالد ترامب، لأجندة «أمريكا أولاً»، التي تمجد القومية الاقتصادية التي تتسم بضيق الأفق وانعدام الثقة في المؤسسات والاتفاقيات الدولية.
ولكن ربما يظهر الآن نمط جديد من التعاون الدولي، نمط يتجاهل ترامب ويتجاوزه.
مع استمرار إدارة ترامب في نبذ أنماط التعاون الراسخة منذ أمد بعيد، تُصبح المخاطر التي تهدد الاستقرار العالمي متزايدة الحدة بكل تأكيد. على سبيل المثال، في الاجتماع السنوي الأخير للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، تحدث وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوشين بإيجابية، عن الدولار الأضعف كوسيلة لتعزيز التجارة الأمريكية.
في بلد يعتمد على الطلب الأجنبي على الدولار القوي، وسندات الخزانة لتمويل عجزه المتزايد الاتساع، يُعد هذا منظوراً أحمق، وهو فضلاً عن ذلك يرقى إلى خيانة لالتزام الولايات المتحدة بصيانة النظام النقدي القائم على القواعد، والذي يثبط المساعي الرامية إلى خفض قيمة العملة تنافسياً.
وفي السياسة الخارجية، أقر وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون، إحياء عقيدة مونرو (التأكيد في القرن التاسع عشر على أسبقية الولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي، والذي كان الهدف منه إقصاء المنافسين الأوروبيين) في أمريكا الوسطى والجنوبية، سعياً إلى كبح جماح نفوذ الصين المتنامي.
والواقع أن حنين تيلرسون إلى عام 1823، لم يتقاسمه معه أحد جنوبي الحدود، حيث كانت عقيدة مونرو، كما أشار أحد المعلقين في المكسيك، «تخدم كمبرر لتدخل الجرينجو»، وحيث يُنظَر إلى المشاركة المتزايدة من قبل الصين باعتبارها ثِقَلاً موازناً للولايات المتحدة.
كما كشفت إدارة ترامب النقاب عن سياسة نووية جدية أكثر عدوانية؛ إذ تقترح مراجعة الموقف النووي، واستخدام ضربات نووية في الرد على تهديدات غير نووية، ونشر أسلحة نووية جديدة «منخفضة الحصيلة»، حيث يمكن باستخدام غواصة، إطلاق قنبلة نووية تعادل في قوتها تلك التي دمرت هيروشيما وناجازاكي عام 1945. وهذه السياسة التي تستهدف وفقاً لوزير الدفاع جيمس ماتيس، إقناع الخصوم بأنهم «لن يكسبوا أي شيء من استخدام الأسلحة النووية، بل سيخسرون كل شيء» تمثل انقلاباً على أربعين عاماً من الزعامة الأمريكية، في خفض المخزونات النووية وتشجيع عدم الانتشار النووي.
من غير المستغرب إذن، أن تفقد دول أخرى الثقة في الولايات المتحدة بوصفها شريكاً مستقراً، ناهيك عن كونها زعيماً يمكن التعويل عليه.
مع تراجع الثقة في القيادة الدولية الأمريكية، يتراجع أيضاً التزام الدول بالتعاون، وهي الاتجاهات التي ربما تبلغ أوجَها في سباق اقتصادي إلى القاع، أو ربما حتى الدخول في صراع عنيف.
بطبيعة الحال، ربما يتبين أن بعض تصريحات إدارة ترامب لا تعدو كونها مجرد تهديدات فارغة. خلال فترة ولاية الرئيس رونالد ريجان الأولى في أوائل ثمانينات القرن العشرين، شكك أيضاً في النظام النقدي الدولي؛ واتخذ خطاً أكثر صرامة في التعامل مع أمريكا اللاتينية، وأعرب عن شكوكه في مبدأ الردع النووي (مفضلاً فكرة التفوق النووي)، ولكن بحلول فترة ولايته الثانية، عاد ريجان إلى احتضان التعاون الدولي.
في كتابه الصادر عام 1984 بعنوان: «بعد الهيمنة»، زعم الباحث الأمريكي روبرت كوهين أن التعاون الدولي من الممكن أن يستمر، حتى في غياب الهيمنة العالمية الأمريكية. وكانت رؤية كوهين الأساسية تتلخص في أن إنشاء مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي، ومنظمة الصحة العالمية، بل وحتى المؤسسات المخصصة مثل مجموعة العشرين، ربما يحتاج إلى قيادة واضحة، لكن إدارتها قد لا تتطلب مثل هذه القيادة.
أخيراً، أفضى تشكيك ترامب علناً في منظمة حلف شمال الأطلسي، وهو التحالف الأمني الذي تقوده الولايات المتحدة، إلى تحفيز الأوروبيين ودفعهم إلى المضي قدماً في خططهم الأمنية المشتركة.
وربما تكون النتيجة نشوء تحالفات تعاونية جديدة، إلى جانب مؤسسات عالمية محدثة. أما عن الولايات المتحدة، فربما تجد إدارة ترامب أن شعار «أمريكا أولاً» يعني في حقيقة الأمر «أمريكا وحدها».
* العميدة المؤسِّسة لكلية بلافاتنيك للإدارة الحكومية في جامعة أكسفورد، والمقال ينشر بترتيب مع: بروجيكت سنديكيت