التغيير هناك تقوده الصين.. من يقوده هنا؟
جميل مطر
قضيت جانباً من وقت الأيام الماضية أتابع تطورات السياسة في جنوب شرقي آسيا. دفعني وشجعني الدعم الذي حصل عليه الرئيس الصيني من أعضاء المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني. حصل الرئيس شي على دعم في مسألتين، الأولى تتعلق بالشأن الداخلي، إذ أصبح الرئيس بفضل هذا الدعم رئيساً مطلق الصلاحيات، لا ينتظر رأي أي قيادة جماعية مثل تلك التي ميزت عهد الرئيس الأسبق ومفجر ثورة الإصلاح، دينج تشاو بينج. بهذا التطور في نظام القيادة الصينية يحوز الرئيس تشي على صلاحيات وسلطات لم يحظَ بها رئيس آخر، منذ عهد الرئيس ماو مؤسس الصين الحديثة. المسألة الثانية، التي حصل الرئيس على دعم من المؤتمر بشأنها، تتعلق بالخارج، إذ يحق للرئيس بمقتضى هذا الدعم أن يصدر التوجيهات ويطلق عقال كل مصادر القوة الصينية، لتحقيق حلم الحزام والطريق والتربع على عرش قيادة العالم، في موعد لا يتجاوز منتصف القرن، أي خلال الثلاثين عاماً المقبلة.
لم تأتِ هذه التطورات من فراغ، ولم تمثل مفاجأة لكثير من المتخصصين في أمور الصين. إلا أنها هي وغيرها من تطورات أسفرت عنها المؤتمرات الدولية التي عقدت مؤخراً في الإقليم أثارت اهتماماً خاصاً، لدى متابعي قضايا التغير والتحول في النظام الدولي والنظام الإقليمي لدول جنوب شرقي آسيا. أثارت فضولي أيضاً. إذ تصادف وقوع تغيرات في طبيعة وكثافة النزاعات والتحالفات في إقليم جنوب شرقي آسيا، مع زيادة توقعاتنا عن وقوع تغيرات مماثلة أو أشد حدة في الإقليم الذي ننتمي إليه ونعيش فيه.
لفت نظري ومعلقين آخرين إصرار الرئيس ترامب على التخلي عن مسؤولية أمريكا ومكانتها في اتفاقية التجارة عبر الباسيفيكي والحلف الآسيوي الباسيفيكي، بالحجة التي لم يفتأ يستخدمها لتبرير انسحاب بلاده من موقع أو آخر من مواقع القيادة والمسؤولية الدولية.
الأمر بدا مختلفاً بعض الشيء في آسيا. كان واضحاً منذ وقت غير قصير أن قيادة أمريكا في الحلف الآسيوي الباسيفيكي صارت محل شك. بات واضحاً أيضاً أن الرئيس ترامب في غير حاجة إلى أن يستخدم حجته التقليدية للتخلي عن مسؤولية القيادة في هذا الحلف. ما حدث لا علاقة له بالتكلفة المادية والسياسية التي يمكن أن تتحملها واشنطن لو استمرت تقود الحلف، إنما له علاقة مباشرة بواقع جديد خططت له ونفذته الصين، لتتولى منفردة مسؤولية قيادة مجموعة الدول الواقعة ضمن حيز النظام الإقليمي لدول جنوب شرقي آسيا. أخطأ محللون عسكريون عندما قرروا قبل سنوات أن حلفاً يمكن أن يقوم في جنوب شرقي آسيا على نسق حلف شمال الأطلسي أي حلف الناتو. أسباب الخطأ ثلاثة على الأقل، أولاً: لا وجه شبه بين طبيعتي الصراع في الحالتين. ففي الناتو كانت هناك حرب باردة وحروب ساخنة عديدة، وكان على الدول ذات العلاقة تحديد موقع ولائها بشكل قطعي. لا يوجد في جنوب شرقي آسيا صراع حقيقي بين قطبين دوليين أو إقليميين، ولا توجد حرب باردة ولا حروب بالوكالة ساخنة. ثانياً: ولاءات دول الإقليم ليست قاطعة. جميع دول جنوب شرقي آسيا معتمدة على التجارة مع الصين، ولا تستطيع الانفكاك عن هذه العلاقة أياً كانت الأسباب والظروف. من ناحية أخرى فإن هذه الدول جميعاً تجد صعوبة في التخلي عن علاقتها بأمريكا، هذه العلاقة المشيدة فوق تعاون عسكري واستخباراتي وثيق مع الولايات المتحدة وقواعد عسكرية أمريكية وبرامج تسلح وتدريب. ثالثاً: لا شك لدى كثير من المتخصصين في أن هذه الدول الصغيرة صارت تميل إلى القبول بالأمر الواقع الجديد، وهو تحول النظام الإقليمي الذي اعتمد في هياكله على وجود قطب دولي أعظم، هو أمريكا، إلى نظام إقليمي بمواصفات جديدة تقوده الصين ومستقل بعض الشيء عن النظام الدولي الراهن.
المثير على المستويين النظري والعملي هو أن هذا الوضع الفريد في نظم التحالفات والنظم الإقليمية، دفع بالولايات المتحدة إلى الاقتناع بفكرة قديمة سبق أن دعا إليها آبي رئيس وزراء اليابان، وتقَضي بإنشاء تجمع هندي – باسيفيكي للدول الأكبر في آسيا باستثناء الصين، يضم اليابان والهند وأستراليا والولايات المتحدة، وكانت اليابان قد أعطته اسم الحوار الأمني الرباعي، اسم إن دل على شيء فإنه يدل على نقص ثقة أصحاب الفكرة في قدرتهم على إقامة حلف حقيقي يواجهون به العملاق الصاعد في شرق آسيا. لا ننسى أن اليابان مازالت طريقها طويلة ومكلفة نحو بناء قوات مسلحة قوية وفاعلة، وفي الوقت نفسه لا تكون على حساب إنجازات اليابان الاجتماعية.
ما أبعد الشبه بين أوضاع إقليم جنوب شرقي آسيا، وأوضاع إقليم نعيش فيه ولا نشعر بانتماء كافٍ إليه لأننا لم نعد نعرفه. نظام إقليمي يتغير هناك ونظام إقليمي يتغير هنا.