الجغرافيا تاريخ ساكن
د. حسن مدن
ما من مفكر عربي جعل الجغرافيا موضوعاً حيوياً للدراسة والتحليل كما فعل الراحل الكبير جمال حمدان، الذي عاش راهباً، منكباً على بحثه، بعيداً عن الأضواء، ورحل مبكراً في ظروف لا يزال يكتنفها الكثير من الغموض، خاصة مع الراجح من الأخبار أن مخطوطة كتاب ضخم له عن «إسرائيل» والتاريخ اليهودي، كان منهمكاً عليه، قد اختفت من شقته بعد موته مباشرة.
ويرجح أن تكون هذه المخطوطة تطويراً وتأصيلاً لما كان قد أتى عليه في كتابه، الصادر عام 1967، بعنوان: «اليهود أنثروبولوجياً»، وفيه يفند مزاعم الحركة الصهيونية وغلاة المتطرفين اليهود، اليوم، من أنهم أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد، شارحاً أن هؤلاء إنما ينتمون إلى إمبراطورية «الخزر التترية» التي قامت بين بحر قزوين والبحر الأسود، واعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي.
على مستوى الفكر العربي، استطاع جمال حمدان أن يطور الجغرافيا من مجرد كونها علماً منحصراً في التضاريس والحدود، وأسماء ومواقع المحيطات والجبال والبلدان والمناخات على النحو الذي درسناه في المدارس، حيث قصارى ما بقي في أذهاننا ما الذي يحد هذا البلد أو ذاك من الجهات الأربع، وما إلى ذلك من معلومات، لا تذهب عميقاً، ولا تحلل أثر الموقع في تشكيل صورة المجتمعات وسمات الشعوب.
جغرافيا جمال حمدان تجمع بين علوم الجغرافيا نفسها، والاقتصاد والسكان والبيئة والتخطيط، ناهيك عن السياسة والتاريخ، ومن هنا أتت المقولة الشهيرة، والعميقة، المنسوبة إليه من أن «التاريخ جغرافيا متحركة، والجغرافيا تاريخ ساكن».
بصورة عامة لدى البشر، الدارسين منهم خاصة، ولع بالتاريخ، بمحطاته وحروبه وثوراته وغزواته وتقلباته، لكن من النادر أن يجري النظر إلى الجغرافيا، بوصفها هي الأخرى، تاريخاً، حتى وإن كان ساكناً على ما يصفها جمال حمدان، وعلى هذه القاعدة وضع الرجل أبحاثه ودراساته، ومن وحيها بلغ استنتاجاته المهمة، والفريدة من نوعها، وفي عمقها.
يرشدنا جمال حمدان إلى أننا إذا عرفنا الجغرافيا بشكل صحيح، نكون قد عرفنا «كل شيء عن نمط الحياة في هذا المكان أو ذاك، جغرافية الحياة التي إن بدأت من أعلى آفاق الفكر الجغرافي في التاريخ والسياسة فإنها لا تستنكف عن أن تنفذ أو تنزل إلى أدق دقائق حياة الناس العادية في الإقليم».
لا شك أن كتاب جمال حمدان «شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان»، هو الكتاب الأهم والأشهر بين مؤلفاته، الذي انكبّ على العمل فيه نحو عشر سنوات، ولكن من الظلم لتراث الرجل وموسوعية معرفته، حصر منجزه في هذا الكتاب وحده، فبقية مؤلفاته تنطوي هي الأخرى على قيمة معرفية هائلة سنظل نحتاجها في حاضرنا ومستقبلنا، والعودة إليها ترينا أن الرجل كان، فيها، يستشرف المستقبل، ويقدم نبوءات نراها اليوم تتحقق بدقة مذهلة.
madanbahrain@gmail.com