قضايا ودراسات

«الجماعة» والمجهول

عبدالله السناوي
التاريخ مادة السياسة وظلال الماضي ممتدة إلى المستقبل.
بقدر صحة الحقائق والمعلومات الأساسية يكتسب أي سجال عن الماضي صحته وقدرته على تصحيح وتصويب الحركة العامة للمجتمع أمام تحدياته المستجدة. أي سجال يحتاج إلى إطار عام يحكمه، يعرف موضوعه ويلم بوثائقه المؤكدة ويحتكم إلى ما هو ثابت تاريخياً.
عندما يغيب هذا الإطار فإن السجالات تمضي بالانطباع والتاريخ يكتب على الهوى. وقد كان أخطر ما انطوى عليه المسلسل التلفزيوني «الجماعة 2» أن بعض وقائع التاريخ زيفت بخفة غير مسبوقة في مثل هذا النوع من الدراما التاريخية.
القضية ليست أن تكون مع ثورة يوليو أو ضدها في النظر إلى تاريخ الجماعة، الذي يقارب التسعين سنة، بقدر ما هي احترام حقائق ما جرى فعلاً موثقاً ودقيقاً بغض النظر عن أية مشاعر تجاه يوليو و«جمال عبد الناصر».
لا يمكن لبلد يحترم تاريخه ويحترم نفسه أن يتقبل على خلاف الحقيقة نسبة إطلاق اسم الثورة على حركة الضباط الأحرار ل«سيد قطب» الرجل الأكثر تشدداً وتطرفاً، الذي خرجت من تحت عباءته تنظيمات العنف والإرهاب بالإقليم كله.
بما هو ثابت منشور في توقيته أن أول من أطلق اسم الثورة على يوليو هو عميد الأدب العربي الدكتور «طه حسين»، الرجل الأكثر انفتاحاً على تحديث المجتمعات العربية، الذي خرجت من عباءته موجات الاستنارة في مصر وعالمها العربي.. التاريخ هو التاريخ والحقيقة هي الحقيقة.
الرجلان «طه حسين» و«سيد قطب» رمزان لخيارين متناقضين وعالمين متخاصمين. إذا تورط المسلسل في ذلك الادعاء؟ هناك سببان أحدهما درامي والآخر سياسي.
فيما هو درامي حاول المسلسل أن يبني قصة الجماعة بعد يوليو 52 على تقارب وتضاد «جمال عبد الناصر» و«سيد قطب».
بالغ بلا سند يعتد به على علاقة التقارب، كأن «قطب» هو مفكر الثورة، وأن «عبد الناصر» لم يكن يتخذ قراراً دون الرجوع إليه.
في تلك العلاقة المفترضة بدا «عبد الناصر» ساذجاً و«قطب» خفيفاً.
لم يكن الأول هكذا، فقد أحكم سيطرته على المسرح السياسي، أمسك بكل الأوراق بيده وحسم صراع السلطة تماماً.
وما كان الثاني كذلك، فقد نازعت أفكاره رؤية المرشد المؤسس «حسن البنا» وبدت أكثر تماسكاً ووضوحاً وعنفاً، والمجموعة القيادية التي أمسكت بمقاليد الجماعة قبل ثورة يناير يطلق عليها «القطبيون»، وكان تشدد خطابها من أسباب إطاحتها في (30) يونيو/حزيران (2013) وما بعدها، كما أن نفس الأفكار حكمت كل التنظيمات التي خرجت من عباءة «الإخوان» تكفر الدولة والمجتمع وتحكم عليهما بالجاهلية وترفع السلاح لفرض تصوراتها.
وصل الافتراء على التاريخ حداً يقارب مسرحيات اللا معقول كالادعاء أن «قطب» حضر اجتماعاً لمجلس قيادة الثورة قرر إلغاء الأحزاب، وأن صوته رجح عدم حل جماعة «الإخوان المسلمين»، وأنه كان يجلس على رأس مائدة الاجتماع على الجهة المقابلة للواء «محمد نجيب» رئيس الجمهورية في ذلك الوقت.
هذه فبركة سياسية ودرامية ما جرت ولا دليل واحد عليها في كل شهادات أعضاء مجلس قيادة الثورة، وبعضهم اختلف مع «جمال عبد الناصر» وسجل تفاصيل ما اختلف فيه.
وفق الأصول في كتابة الدراما التاريخية من حق المؤلف أن يقرأ الحوادث بالطريقة التي تناسبه وأن يضيف من خياله أية شخصيات تشرح العصر وطبيعته وتحدياته شرط ألا يختلق واقعة لم تحدث، أو يزيف أخرى.
وفيما هو سياسي فإن المسلسل وقع في مطب العداء لثورة يوليو، وبدا ذلك واضحاً بأغلب مشاهده وروحه العامة.
ما قرأ السياق الذي استدعى يوليو للتاريخ في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما نظر في التحديات والأفكار والتيارات الجديدة التي نشأت بعد تلك الحرب وأثرت على التكوين الفكري والسياسي للضباط الأحرار، وما أدرك أن الثورة ابنة الوطنية المصرية في لحظة ارتفعت فيها نداءات التحرر الوطني والعدل الاجتماعي بالعالم كله.
أعطى المسلسل رسالة مضمونها أن ثورة يوليو نشأت «إخوانية»، وأن «عبد الناصر» نفسه «إخواني» في بدايته قبل أن ينقلب على الجماعة. لم يكن ذلك صحيحاً، فقد مر «عبد الناصر» على حزب «مصر الفتاة» والتنظيمات الشيوعية مثل «حدتو» كما مر على الجماعة. لم يبايع الجماعة ولكنه أقسم على المصحف والمسدس بعدم إفشاء أسرار التنسيق حسب روايتي «خالد محيي الدين» و«كمال الدين حسين» عضوي مجلس قيادة الثورة.
هناك فارق كبير بين المبايعة والتنسيق، الإصرار على الفكرة الأولى جرى بهوى تصوير يوليو على أنها منتج «إخواني»، وبالتالي فإن صدام «عبد الناصر» مع الجماعة خروج عن البيعة.
عدم التدقيق يربك أي نص تاريخي أو درامي، فما عرفنا كيف وصل «سيد قطب» إلى تلك الدرجة من العنف والتكفير، وما أدركنا مصادر التكوين الفكري ل«جمال عبد الناصر» التي أوصلته إلى أن يكون بعد سنوات قليلة من يوليو الرمز الأكبر للقومية العربية في العصور الحديثة.
نحن نتحدث عن مشروعين متناقضين، كان الصدام بينهما محتماً بصورة أو أخرى بعيداً عن أية خزعبلات انطوى عليها المسلسل.
عندما تعزل الثورات عن سياقاتها التاريخية فإنها «هوجة» كما دمغت الثورة العرابية التي نعت أبطالها ب«العصاة»، أو «انتفاضة رعاع» كما قيل عن ثورة (1919) بزعامة «سعد زغلول»، أو «انقلاب» وقف وراءه «الإخوان» كما وصفت ثورة يوليو في هذا المسلسل، أو «مؤامرة» حسب الاتهام الشائع لثورة «يناير».
عندما تفرغ مصر من تاريخها وقواها وحيويتها وثوراتها فإنه لا يتبقى بنهاية المطاف غير الجماعة مصيراً وحيداً.
لم يكن ذلك قصد المؤلف، فمواقفه المعلنة تناهض الجماعة وما هو منسوب إليها من عنف مسلح وانتهازية سياسية. غير أن العمل يذهب إلى العكس تماماً، فالجماعة الحقيقة الوحيدة في العصور الحديثة، وكل ما عداها ظلال لها الثورات والتيارات والزعامات بلا استثناء.
لم يكن هناك داعٍ درامي ولا سياسي واحد لتعمد إهانة زعيم الوفد التاريخي «مصطفى النحاس»، الذي كان زعيم الأمة بلا منازع حتى اتفاقية (1936)، لكنها الروح المعادية لإرث الوطنية المصرية.
هذا صلب الموقف كله، إذا لم ننظر إلى ذلك الإرث بشيء من الجدية، فحصاً بالوثائق لا استغراقاً في الخزعبلات، فلن نعرف أين نقف، ولا أين كانت الأخطاء التي أوصلتنا إلى هنا؟
آخر ما تحتاجه مصر الآن أن ترتبك عليها الإجابات بعد أن تضيع منها الأسئلة الحقيقية ذاهبة إلى المجهول.Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى