قضايا ودراسات

الحداثة وفقه الانتقاء

خيري منصور
حين أصدر الراحل زكي نجيب محمود وهو مفكر ورائد كتاباً تحت عنوان «تجديد الفكر العربي» تعرض لنقد من عدة أطراف، وكان القاسم المشترك بينها أن د. زكي لم ينظر إلى الحداثة على نحو شامل واقترح أن ننتقي منها أو من التراث ما يلائمنا ونترك ما تبقى.
وبين وقت وآخر تظهر أطروحات مماثلة لأطروحة زكي نجيب محمود يرى أصحابها أن ما أنجز في الحداثة يجب أن يخضع للفرز بحيث نختار منه ما نحن بحاجة إليه. والحقيقة أن التعامل مع التراث أو مع الحداثة يخضع لمنهج أولاً، وتكون له رؤى بانورامية تتعامل مع مختلف الزوايا.
لهذا فالحداثة سياق كامل وهي نتاج تطور وتراكم شمل التفاصيل كلها، وعلى سبيل المثال فإن تشكل المدن الكبرى لايتيح لها الاحتفاظ بتقاليد القرية وأعرافها، لأن الناس في المدن خليط غير متجانس، وقد لا يعرفون بعضهم إلاّ في المناسبات بعكس القرى التي يعرف الناس بعضهم حتى الجد الثالث أو الرابع وبالأسماء والتواريخ الشخصية. فالحداثة تفرض على البشر ضرائبها وأعراضها المصاحبة لها، لهذا لا بد من التأقلم معها واستيعاب مجمل مفاهيمها وما تمليه من أنماط العلاقات.
وحين تطورت المجتمعات الزراعية وأصبحت صناعية حدثت فيها متغيرات شملت النسيج الاجتماعي بكل خيوطه وشرائحه، ولم يعد الاحتكام إلى الأعراف والكوابح الأخلاقية كافياً، فكان لا بد من القوانين التي تنظم الحياة والحقوق والواجبات.
ورغم الكثير الذي كتب عن الحداثة في عالمنا العربي إلاّ أن المعالجات جنحت نحو التعميم والتجريد، وكأن الحداثة مناخ كوني. ومما يلفت الانتباه في هذا السياق ما كتبه هنري لوفيفر عن الحداثة في الغرب، فقد كان يذكر القارئ بين صفحة وأخرى بأنه يكتب عن حداثة بلاده، ويقول حداثتنا بدلاً من مطلق الحداثة.
وتكررت مقاربات الحداثة في عالمنا العربي حين هبت عاصفة العولمة، وهناك من صدقوا أن الكوكب أصبح قرية، متجاهلين أن القواسم المشتركة في السوق والتجارة ومظاهر المدنية تخفي تحت سطحها فروقات قد تكون جذرية، ومهمة الثقافة الأصيلة الكشف عن تلك الفروقات!Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى