قضايا ودراسات

الحرب الباردة تعود

إلياس سحّاب
مع أن القرن التاسع عشر قد انتهى نظرياً، وحسابياً، مع حلول العام 1900، فإن نهايته في الحياة السياسية الدولية قد تأجلت حتى العام 1920، بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها (1914-1918)، ثم اكتملت بسلسلة من الاتفاقات الدولية التي كرست الولادة السياسية الفصلية للقرن العشرين، التي تبلورت بولادة عصبة الأمم.
لكن الحياة السياسية الدولية الجديدة لم تولد مستقرة بل دخلت في أتون من التفاعلات، لعل أبرزها كان ولادة الاتحاد السوفييتي في روسيا، والنازية في ألمانيا وحليفتها الفاشية في إيطاليا. وقد أدت هذه التفاعلات في نهاية الثلاثينات إلى نشوب الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، التي استمرت ست سنوات، وانتهت بولادة هيئة الأمم المتحدة، راسمة الإطار الرسمي الذي احتوى على خريطة القرن العشرين للحياة السياسية الدولية الجديدة.
هذه الخريطة الجديدة استمرت حتى تسعينات القرن العشرين، وانتهت بانهيار الاتحاد السوفييتي، أحد أبرز الولادات السياسية الجديدة في القرن العشرين. لكن هذه الحقبة بين نهاية الأربعينات ونهاية الثمانينات تميزت بولادة ظاهرة سياسية جديدة وضعت بصماتها على الحياة السياسية الدولية في هذه الحقبة، سميت ب «الحرب الباردة».
وقد ولدت هذه التسمية من كون الحياة السياسية الدولية الجديدة، قد اتخذت شكلاً جديداً، هو انتهاء عصر الحروب العالمية الشاملة، كالحربين الأولى والثانية، وولادة عصر الاشتباكات المحدودة وصراع النفوذ بين القوى الدولية الكبرى، على سيادة الأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية في سائر أرجاء الكرة الأرضية.
من أشهر هذه الاشتباكات المحدودة التي كانت في كل مرة تقترب من حدود الحرب العالمية الجديدة، لكنها تظل مضبوطة لا تتجاوز حدودها الفرعية: حرب كوريا، وحرب فيتنام وأزمة الصواريخ الروسية في كوبا.
بعد النهاية السياسية للحياة الدولية في القرن العشرين، بانهيار الاتحاد السوفييتي مع مطلع العقد الأخير من القرن العشرين، وضع عصر «الحرب الباردة» أوزاره، وشهدنا عصراً قصيراً لم يتجاوز عمره العشرين عاماً، توزع بين نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، عرفت فيه الحياة السياسية الدولية مرحلة سيطرة القطب الواحد، وهو الولايات المتحدة الأمريكية، وهي حقبة توجها الغزو الأمريكي المكشوف للعراق في العام 2003.
غير أن هذا الغزو الذي انتهى عملياً بالفشل بعد سنوات عديدة، كان مقدمة لاستعادة بعض القوى الدولية توازنها، خاصة روسيا، التي احتلت في الحياة الدولية الموقع القديم للاتحاد السوفييتي القديم، ثم اكتمل هذا المشهد بظهور قوى جديدة أخرى مثل الاتحاد الأوروبي، وخروج دول مثل الصين والهند إلى مواقع السياسة الدولية، وظهور قوى جديدة في أمريكا الجنوبية، أبرزها البرازيل.
هذا التكون الجديد للقوى السياسية في مطلع القرن الجديد، كأنه كان من الطبيعي له، وسط تعدد الأقطاب في إطار الحياة السياسية الدولية، أن يؤدي إلى ظهور جديد لنظام «الحرب الباردة»، الذي يسود الحياة الدولية في وقتنا الحاضر، وينظم خلافات وصراعات القوى الدولية الكبرى، على مواقع النفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي. ولعل من أواخر ظواهر هذه العودة الجديدة للحرب الباردة، مشهد التنسيق بين موسكو وواشنطن في إطار الأزمة السورية، التي يتوقف على مصيرها النهائي رسم الخريطة الجديدة للنفوذ الدولي في هذه المنطقة الحساسة من العالم.
والحقيقة أن مؤتمر العشرين، الذي عقدته القوى الدولية الكبرى في مدينة هامبورج بشمال ألمانيا، قد جاء يشكل قمة لهذا العصر الجديد، للحرب الباردة الجديدة، لذلك كان من الطبيعي أن يكون المشهد الأساسي في هذا المؤتمر، هو الاجتماع الثنائي المطول الذي عقد بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وهي على أي حال حقبة جديدة في الحياة السياسية الدولية، ما زالت آفاقها البعيدة غير منظورة حتى الآن.Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى