قضايا ودراسات

الحرب شبه الباردة

خيري منصور

للتاريخ مجرى يتعذر على أية قوة أو إمبراطورية تدجينه أو تحويله نحو المصب الذي تشتهيه. لهذا غربت الشمس عن إمبراطوريات منذ الرومان، كانت تبدو لمن عاشوا فيها كما لو أنها أبدية، ومن يراهنون على تكرار أحداث معينة من التاريخ لمجرد وجود أوجه شبه بين مراحله يستجيبون لنواياهم ورغباتهم، فلا يرون غير ما يريدون رؤيته.
وربما كانت الحرب الباردة نموذجاً معاصراً في هذا السياق، فبعد أن وضعت أوزارها الناعمة، وحسم الأمر لقطب واحد، بدأ الحنين وهو أقرب إلى النوستالجيا المرضية إلى الماضي خصوصاً لدى دول تدنت تسعيرتها السياسية في غياب القطبين وما كان يحدث من استقطاب وتمحور!
وما إن تململ الدب الروسي قليلاً وسرى في جسده شيء من الدفء بقيادة روسية شابة أعقبت شيخوخة «يلتسين» حتى بدأ الجيل الذي عاش خريف الحرب الباردة ينتظر عودة ربيعها، وهناك من أفرطوا في هذا التصور، ومنهم من رأى أن دمشق مثلاً هي القمقم الموعود لحرب باردة جديدة، لا تتأسس فقط على توازن الرعب النووي؛ بل على المصالح، لكن من شعروا بأن موسكو خذلتهم في العراق وليبيا قرروا أن لا يلدغوا من الجحر البارد ذاته عدة مرات!
وما يقوله علماء الجيولوجيا عن التضاريس الوهمية أو الخادعة التي تبتكرها العين الكليلة بحيث ترى جبالاً لا وجود لها أو تظن بأن السراب ماء، فإن هناك أحداثاً تاريخية تتعرض للأوهام ذاتها، لكن على نحو مغاير، فالحرب قد تكون شبه باردة؛ بل أحياناً تكون شبه حرب، وتستخدم فيها مصطلحات المعجم العسكري ومقولات تقترن بذكريات الحرب، لكنها في الحقيقة شيء آخر تماماً.
ولعل العبارة الشهيرة لإدغار ألن بو وهي ما مضى لن يعود تليق بالتاريخ وأحداثه الجسام، فالإمبراطوريات التي غربت شمسها لن تعود وكذلك الحروب سواء كانت ملتهبة أو باردة إلا بصور مختلفة تماماً فالتاريخ لا يعبأ بأحلام اليقظة!

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى