مقالات عامة

الحقيقة الناقصة

د. حسن مدن

النظرة الأحادية لظاهرة من الظواهر لا تعني بالضرورة أنها خاطئة، لكنها ببساطة شديدة غير كافية. إنها ناقصة لأنها لا ترى سوى جانب من جوانب الظاهرة، وبالتالي فإنها لا تحيط بها، وعلى هذه النظرة الناقصة تنبني استنتاجات خاطئة أو غير دقيقة، والمرجح، لا بل وربما المؤكد أيضاً، أن هذه الاستنتاجات ستكون مختلفة لو أن النظرة كانت شاملة، أو بانورامية، تحيط بالظاهرة من شتى جوانبها، لا من جانب واحد.
يمكن أن تأتي النظرة الأحادية نتيجة جهل أو قلة معرفة أو محدودية في الرؤية، وبالتالي فإنها، في حال مثل هذه، نظرة بريئة، لا يضمر أصحابها شراً أو ضغينة. كل ما في الأمر أنهم لا يمتلكون ما يكفي من أدوات التحليل والنظر التي تجعل رؤيتهم أشمل وأوسع.
لكن يمكن لمثل هذه النظرة أن تكون قصدية، ومغرضة، يتعمد أصحابها إخفاء جزء من الحقيقة، لا الحقيقة كاملة. أي أن ما يقولونه صحيح، أو أنه قد حدث فعلاً، ولكنه ليس سوى جزء من كل، وأن أحداثاً أخرى سبقته أو ترافقت معه، فحين يجري إخفاؤها وتسليط الضوء على جزئية واحدة منها، فإن هذا ينمّ عن نوايا سيئة بتقديم «الحقيقة» مبتورة، ومفصولة عن سياقها، وفي مثل هذه الحال فإن غياب «نصف الحقيقة»، أو جزء منها لا يقل خطورة عن غيابها كلية، إن لم يكن أخطر.
غياب الحقيقة حول حدث ما قد يكون محرضاً على البحث والتقصي للوصول إليها، ولكن تقديم نصف الحقيقة وتكريسها كما لو كانت سردية مطلقة، ثابتة، قد يغلقان الباب بوجه البحث عن الحقيقة كاملة؛ لأنه يجري تداول المعلومة الناقصة كما لو كانت كاملة.
في كتابه «رأيت رام الله» يشير الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، وهو يتحدث عن الصراع الفلسطيني – الصهيوني، إلى أن أخطر ما تفعله «إسرائيل» في تقديم خلفيات هذا الصراع هو البدء من «ثانياً»، أي إغفال ما جرى أولاً، وهو اجتياح العصابات الصهيونية المسلحة للأراضي الفلسطينية بدعم من القوى الاستعمارية، وتدمير القرى والبلدات الفلسطينية وتهجير أهلها، وإقامة دولة دخيلة مصطنعة على أراضي الغير، وهي تريد لهذا الذي جرى «أولاً» أن يطويه النسيان؛ لإيهام الرأي العام أن هذه الدولة المصطنعة كانت قائمة وموجودة دائماً وهي المستهدفة في وجودها.
ما يصح على الصراع العربي – «الإسرائيلي» يصح على قضايا كثيرة في الحياة، يجري إغفال بداياتها والانطلاق من النتائج، لا من المقدمات التي هي الأساس، والتي لولاها لما كانت هناك نتائج أصلاً. وعلى هذا ينطبق ما دعوناه في مدخل الحديث بالنظرة الأحادية، لكن ليست تلك الناجمة عن الجهل وعدم المعرفة، وإنما تلك الآتية من مقاصد مغرضة بتشويه الحقيقة، وتضليل الناس بأوهام وضلالات، ما يضعنا مرة أخرى أمام السؤال الصعب: مَن هو الذي كتب التاريخ؟

madanbahrain@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى