الدولة العميقة
تأليف: مايك لوفغرين
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
يتكرر مصطلح الدولة العميقة في عدد من الدول، وربما يكون تأثيرها محصوراً في الدولة التي تديرها في الخفاء، إلا أنه في الولايات المتحدة تلعب الدولة العميقة دوراً كبيراً، يمتد إلى كافة أنحاء العالم بطرق مختلفة. استخدمت هذه «الدولة» التي تشكل النخبة الثرية عمودها الفقري، النظام السياسي الأمريكي في خدمة مصالحها، وحوّلت الديمقراطية إلى بلوتوقراطية، وبحجة الحرب على الإرهاب عسكرت السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فخلفت الضحايا والكوارث في الداخل والخارج. يحاول مؤلف هذا العمل الكاتب مايك لوفغرين بحكم عمله ثمانية وعشرين عاماً في الكونغرس أن يسلط الضوء على الممارسات الخاطئة في السياسة الأمريكية، وكيف يتم استخدام القانون لحماية الشركات والمجمعات العسكرية والصناعية والاستخباراتية والإعلامية، ويوجّه في الوقت ذاته نداء تحذير إلى الطبقة السياسة والشعب الأمريكي، ويدعو إلى إجراء إصلاحات جذرية رغم صعوبتها البالغة.
يحتوي الكتاب الصادر عن دار «بينغوين بوكس» العالمية في 310 صفحات من القطع المتوسط على 15 فصلاً بعد التمهيد والمقدمة، يتناول فيه الكاتب العديد من القضايا المتعلقة بالنظام السياسي الأمريكي، والفساد الذي يتغلغل في مفاصله، ويقول في تمهيده: «يمكن أن تمتلك التراكيب الرسمية للأنظمة السياسية عمراً طويلاً بشكل يثير الدهشة. دستور الولايات المتحدة الأمريكية أصبح عمره الآن قرنين وربع القرن، فهو يعد الدستور الوطني الأقدم قيد الاستخدام المستمر على مستوى العالم. ما يتغير هو الطريقة غير الرسمية التي تتطور فيها الأنظمة السياسية حتى عندما تبقي على الشكل الظاهري الذي ورثته».
ويضيف: «توقع توماس جيفرسون أن تكون بلادنا كجمهورية فاضلة من المزارعين، لكن في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، مهدت رؤيته الطريق إلى بلوتوقراطية العصر الذهبي التي أدار فيها الأثرياء مثل جون د.روكيفيلر وج.ب. مورغان المشرعين والمحاكم كما لو أنها فروع تتبع شركاتهم. استغرق الأمر جهود ما يقارب عقداً من الزمن لدى التقدميين حتى استعادوا بعض معايير السيادة الوطنية».
ويشير إلى أنه «بعد انهيار وول ستريت في 1929، أطلق البرنامج الاقتصادي»الصفقة الجديدة «ما سماه البعض ثورة أمريكية ثانية، وفي النصف الثاني من القرن العشرين، أصبحت الولايات المتحدة تشبه الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية. لكن في أعقاب الصدمة النفطية والركود الاقتصادي في سنوات السبعينات من القرن الماضي، بدأت البلاد تنزلق إلى أوليغارشية (حكم الأقلية) فعلية مموهة بمنافسة بين حزبين داخل الشكل الظاهري للحكومة الدستورية».
مناخ سياسي مضطرب
يذكر المؤلف أنه خلال السنة الأخيرة وصلت الولايات المتحدة مجدداً إلى نقطة الانحراف، حيث كان المناخ السياسي المضطرب يسيطر عليها منذ أواخر ستينات القرن الماضي. ويعلق: «النخب السياسية تتحكم بحزبينا الرئيسيين، وأصحاب المليارات من خلفهم سبق وأن استقروا على خيار ثنائي بسيط لأجل رئيس للشعب الأمريكي: جيب بوش (المرشح الجمهوري حالياً هو دونالد ترامب) وهيلاري كلينتون. كانا من الصقور وصديقين لوول ستريت، حيث أفراد من عائلتهما سبق وأن شغلوا مواقع في السلطة سواء في الرئاسة أو نواب للرؤساء لما يقارب ثلاثة عقود. هذه هي ممارسة الديمقراطية – الأسلوب الأمريكي – التي انحدرت إلى: الخيار بين البيبسي والكوكا كولا، وما يقوم به الناخبون هو الإدلاء بأصواتهم لصالح أحدهما اللذين سبق وأن تم اختيارهما».
ويضيف: «عندما تنحت هيلاري كلينتون عن منصب وزير الخارجية في فبراير 2013، كانت المرشحة الأوفر حظاً في سباق الترشيح الديمقراطي لحملة الانتخابات الرئاسية في 2016. هي وزوجها هاجما وول ستريت وسيليكون فالي وكل مكان للأثرياء لجمع الأموال، وفرض التأثير، وجعلهم يدفعون فواتير الحساب. كان مجموعة من رفاق الحزب يديرون كل حركة لها، وهم أنفسهم الذين هيمنوا على إدارة زوجها، وشكلوا الآن حملة مربحة جداً بدعم من المجمع الصناعي العسكري». ويبين أن قواعد اللعبة بين الجمهوريين والديمقراطيين باتت واضحة، وينتقد الديمقراطيين على أنه بالنسبة لهم القضايا الاقتصادية تبقى في مربع وول ستريت، والسياسة الخارجية تركز على مجد قتل أسامة بن لادن أو عار بنغازي، وليس هناك من أمل لإصلاح الشرق الأوسط بالقوة العسكرية.
يذكر الكاتب أن الظروف الاجتماعية نفسها التي تبنتها الدولة العميقة بدأت تضعف اللامبالاة الشعبية وحالة عدم الاكتراث التي كانت السر لهيمنتها. كما أن التوزيع غير المتساوي كثيراً للدخل ما قبل انهيار 1929، بات واضحاً أكثر من أي وقت، فقد أصبحت الطبقة الوسطى أقلية سكانية في البلاد التي دعت لتأسيس طبقة وسطى عريضة.
صعود ترامب
يتطرق الكاتب إلى العوامل التي ساعدت المرشح الجمهوري إلى الرئاسة الأمريكية دونالد ترامب على الصعود بين المرشحين الجمهوريين، ومنها ما هو متعلق بارتباطاته مع مجمع الترفيه – الإعلام في الولايات المتحدة، على الرغم من أن الكثير من أعضاء حزبه عبروا عن استيائهم من هذه الشخصية، لكن رغم ذلك، فقد دعم الحزب الجمهوري ترامب، الذي يربطه مع مجمع الأمن القومي للدولة العميقة أصول عائلية. ويوضح أن السياسيين والجنرالات ومديري ال«سي آي إي»، ومخضرمي النخبة الفكرية و«خبراء» الإرهاب كانوا يغذون رسالة الخوف في رؤوس الأمريكيين لعقد ونصف، وهذه الديناميكية التي لجؤوا إليها تساعد على توضيح السبب الذي دفع ترشيح ترامب إلى الانطلاق بسرعة عالية في نوفمبر وديسمبر 2015، فترة الهجمات الإرهابية في باريس وحالات القتل في سان برناردينو في ولاية كاليفورنيا، حيث حمّس مسؤولو الحكومة والإعلام المزاج الشعبي في البلاد التي اقتربت من درجة الهستيريا، وتمكن ترامب بشكل حذق من استغلال المزاج العام لصالحه، من خلال استخدام كلمات عنصرية بذيئة ولغة انتقامية يحرك بها القلاقل الثقافية والعرقية.
ويعلق على ذلك: «الناخبون في الحزب الجمهوري في ساوث كارولاينا الذين سلموا ترامب انتصاراً سهلاً، أعلنوا أن الإرهاب هو قلقهم الأكبر، والذي غطى على الاقتصاد المتهاوي والأجور المنخفضة، وانهيار مستوى المعيشة الذي قاد إلى زيادة فعلية في نسب الوفاة بين متوسطي الأعمار، فضلاً عن زيادة عدد البيض الذين لم يدخلوا الكليات، والغلاء في الرعاية الصحية، وقلة توافرها بشكل جيد في العالم «المتقدم». بالتالي يمكن القول إن مهارات ترامب الغوغائية وضعته في موقع أفضل بكثير من خصومه لاستغلال العصاب الوطني الذي خلقته الحرب على الإرهاب بحسب تعبير الكاتب.
في رأي المؤلف، لا يمكن للانتخابات أن تحل المآزق الأساسية في قلب الدولة العميقة معلقاً: «الدرجات العميقة من اللامساواة في الدخل، وهيمنة المال، سواء في انتخاباتنا أو عند سنّ القوانين، والإدمان على الحروب الأبدية لم تكن لتترسخ من دون تعزيز الخوف والاستياء الثقافي. هذه الشرور لا يمكن أن تصبح بعيدة عنا في فترة رئاسة واحدة، حتى وإن كان الرئيس يمتلك حكم الأقدمين، إلا أنه لا يمكن إزالتها عن طريق غوغائية متكبرة تمتلك علاقة مشحونة مع الحقائق والمنطق. إن استعادة الولايات المتحدة كدولة ترقى إلى مثلها العليا سيكون تدريجياً، وتقع مسؤوليته على عاتق جيل جديد متحرر لا يعيش تحت ثقافة الحروب التي شنتها الولايات المتحدة في السنوات الخمسين الأخيرة، ولا يخضع للعقيدة الأمنية الوطنية لكبارها أو العقيدة الاقتصادية الممزقة».
تجاوز أساطير النخبة
يشير الكاتب إلى أن هناك استراتيجية بديلة لتلك المستخدمة في العادة من قبل القوى الكبرى أثناء الأزمات. احتضنتها إلى درجة كبيرة، ومع أهداف مختلفة، شخصيات سياسية متناقضة مثل مصطفى كمال أتاتورك، وفرانكلين روزفلت، وشارل ديغول ودينغ شياو بينغ. لم يكن هؤلاء ثوريون بطبيعتهم، بل كانوا محافظين. لكنهم فهموا أن الثقافات السياسية التي كانوا يعملون فيها تتسم بالتحجر، ولا يمكن أن تتكيف مع كل الأوقات. وفي مسعاهم إلى الإصلاح وتحديث الأنظمة السياسية التي ورثوها، كانت عوائقهم الأولى التي يترتب تجاوزها هي الأساطير البالية التي هيمنت على تفكير النخبة.
ويضيف: «في الوقت الذي تواجه فيه الولايات المتحدة مستقبلها بعد تجربة حربين فاشلتين، وانهيار مالي و19 تريليون دولار من الديون المتراكمة، انقسمت النخبة الاستشارية والثقافية إلى معسكرين: الأول يرى أن النظام السياسي المختل والمتهاوي غير قادر على الإصلاح، وستتجاوزهم الصين اقتصادياً في وقت قريب. ويعد جورج باكر الكاتب في صحيفة «نيويوركر» أحد هذه الأصوات، والذي يرى أن إخلال الطبقة القيادية في الولايات المتحدة بالاتفاق الاجتماعي الضمني قبل أكثر من ثلاثة عقود كانت بداية لعملية «تفكك» كبيرة وضعت البلاد على مسار يتجه نحو الانحدار. أما المعسكر الآخر، فهو الإصلاحي، الذي يؤمن بوفرة الحلول الفردية الزائفة للالتفاف حول الدولة: الإصلاح الانتخابي، والإصلاح العسكري، وغيرها، من دون أن يكون هناك أي توقع حقيقي لسنهم أي قانون فعلي يدفع نحو الإصلاح».
ويقول: «بعد الحرب الأهلية، كان النظام السياسي الأمريكي مغلقاً، ويعيش حالة من الانحدار كما هو الآن. فالشركات كانت تتحكم بالسلطة التشريعية، وتحصل على ما تريد. كان الأمر في عام 1880، في ذروة العصر الذهبي».
ويرى الكاتب أن الأمريكيين أظهروا في الماضي أن إصلاح النظام السياسي الأمريكي، في الوقت الذي كان على الأرجح أمراً صعباً ومطولاً (ربما يحتاج إلى عقود لإنجازه)، لم يكن أمراً مستحيلاً. كما أن تسريبات سنودين، التي كان تأثيرها قوياً بشكل مفاجئ، فضلاً عن مسألة التدخل العسكري في سوريا، وإرباكات الكونغرس التي بدأت تسبب الإزعاج للدولة العميقة، وكذلك المستوى العالي لعدم الرضى الشعبي حيال الواقع السياسي، يظهر أن هناك جوا عميقا نحو التغيير.
دعوة إلى الإصلاح
يقدم مايك لوفغرين في نهاية عمله مجموعة من الإصلاحات التي يمكن أن تبدأ بإيقاف الاختلالات في النظام السياسي الأمريكي، وتضع الولايات المتحدة في مسار صحيح وهي: أولاً، إزالة المال الخاص من الانتخابات العامة. ثانياً، إعادة نشر الجيش بشكل معقول وتخفيض نفوذ المجمع الاستخباراتي – العسكري، من خلال إزالة مئات القواعد العسكرية خارج الولايات المتحدة، خاصة أنها تنفق سنوياً ملايين الدولارات. ثالثاً، البقاء خارج الشرق الأوسط، فكل قضية تدخلت فيها الولايات المتحدة في هذه الرقعة الساخنة من العالم أصبحت أسوأ، وصنعت حاضنات للتطرف من خلال تفتيت الدول، كما حدث في العراق. رابعاً، إعادة توجيه عوائد السلام إلى تحسين البنية التحتية المحلية. خامساً، البدء في تطبيق قانون مكافحة الاحتكار مجدداً. سادساً، إصلاح سياسة الضرائب. سابعاً، إصلاح سياسة الهجرة. ثامناً، تبني نظام رعاية صحية تقوم فيه الدولة بدفع كل التكاليف. تاسعاً، إلغاء الحالة الشخصية للشركات أو معاملتها تماماً مثل الأشخاص، خاصة أن الشركات تلعب دوراً كبيراً في الرشوة السياسية، وبحماية قانونية.
ويعلق الكاتب على هذه الإصلاحات التي اقترحها: «ما اقترحته يبدو خيالياً، بل حتى ساذجاً، إلا أن الولايات المتحدة أنجزت أشياء أكثر إدهاشاً في تاريخها.
وكانت واحدة من الأحداث التي عاصرتها في حياتي هي الانهيار السريع للاتحاد السوفييتي وإمبراطوريته في أوروبا الشرقية. الرجال الحكماء في واشنطن، بوب غيتس وبقية المقربين منه، اصطنعوا نظاماً سياسياً بارداً كالثلج وقاسياً كالفولاذ. ومع ذلك فقد تفتت، ليس بسبب القوة العسكرية، أو الثورة العنيفة، بل بسبب الناس الذي عاشوا في ظله وتحملوا أعباءه، وتخلوا ببساطة عن الإيمان بأساطيرهم.
الولايات المتحدة في حالة أفضل مما كان عليه الاتحاد السوفييتي في وقت مضى، على الرغم من أخطائنا المؤسسية وازدياد الأساطير الإيديولوجية التي أضعفت قدرتنا على رؤية العالم كما هو، والعيش بسلام ووئام ضمنه. الطريق إلى أمريكا أفضل، سوف يأتي بشكل مدهش وسهل عندما نعيد صياغة ما قاله أبراهام لينكولن، «نحرّر أنفسنا من الأساطير المهترئة والمخاوف التي تكمن وراءها».