قضايا ودراسات

الدولة المحترمة وتنظيف المعرفة المشاعية

د. نسيم الخوري
كان الغزو الثقافي في الماضي يتّخذ هذه التسمية كونه كان مباشراً يمكن رصده من خلال الفضائيات أو وسائل الإعلام التقليدية، لكنّ المسائل قد تغيّرت تماماً في الزمن الحالي بعدما تحوّلت حقول التواصل من مرسل ومتلقٍّ إلى انتفاء المتلقي لمصلحة التفاعلات التي تشيعها مواقع التواصل الاجتماعي. إنّ هذه المواقع تقلب الدنيا وتعمل على تغيير المعلومات وتشويهها وتلغيمها بما يشوّه الأركان المعرفية والسلوكية والفكرية للأفراد، حيث لا حدود لمجتمعات المبحرين والمتصفّحين وحيث القدرة على أن نجد أنفسنا أمام أجيالٍ مخيفة وكأنّها ليست أجيالنا.
أمّا اليوم، فيعتبر الأمن الفكري من المفاهيم الحديثة التي تشغل بال الدول بعدما ظهرت مؤخراً وارتبطت باستخدام الإنترنت وفق تنخيل أدوات مشاعيات المعرفة وتنظيفها بما يحفظ أنساق القيم التاريخية. فأن يتعرض الأفراد من كافة الأعمار والأجناس والثقافات للرسائل الإعلامية التي تحفل بها المواقع بالسلبيات تدخل حيّز التأثير المباشر في الفكر والقناعات والقيم مما قد يولد لدى القاصرين أو أصحاب المناعة النفسيّة الضعيفة أفكاراً متطرفة غريبة على المجتمعات والثقافات والأديان. بهذا المعنى تبحث الدول عن استراتيجيات لها علاقة وثيقة بصيانة الأمن الفكري للناس.
طبعاً هي معضلة كونية، لا تنحصر مفاعيلها وتأثيراتها على الأمن الفكري أو التفكيري العربي والإسلامي، بل على أفراد المعمورة بعدما تحوّلت المواقع إلى حاجات قد تتجاوز في أحيانٍ كثيرة الحاجات البيولوجية، لا بل تتلفها وتهدّمها إلى مستويات قد تبدو أحياناً غير قابلة للعلاج. ظاهرة الانتحار وتفشّي العنف تنضوي تحت هذه الخانات المستوردة. وقد تخرج تلك المخاطر عن سيطرة الأهل والمدارس لكونها ترتبط بالبناء أو العمارات النفسية والتربوية والفكرية لأفراد ذلك المجتمع وبخاصة شرائح الشباب منهم لسرعة تأثرهم بالأحداث واندفاعهم أو فتونهم الطفولي بالجديد.
إن عملية نشر المعلومات والحقائق والصور المفبركة وبشكل متواصل ومتكرر يجعلها مسلمات لدى الأفراد وإن كانت غير حقيقية فنجد العديد من المقولات المنشورة منسوبة لغير أصحابها بالإضافة لنقلها بطرائق غير سليمة، بحيث تحرّف محتوياتها فيجد المبحر نفسه تائهاً خجولاً وغير قادر على تمييز الحقائق بل غير قادر على سؤال من حوله من أهله أو معلّميه. ولهذا نرى الكثير من المجتمعات مساحات سهلة وخصبة للنميمة والتحقير والتخريف والتخويف ومرتعاً خصباً أيضاً لتداول الإشاعات والأخبار الكاذبة وبشكل إرادي ومقصود ومدروس لتحقيق نتيجة معينة ونشر معلومات خاطئة أو تجنيد الممكن من المتصفحين لتبني فكر متطرف أو جذبهم للانضمام لجماعات إرهابية أو فاسقة للقيام بأعمال عدائية ضد بلادهم أو مجتمعاتهم.
ومن نتائج تداول وتناقل الأفكار والمفاهيم المغلوطة بين الأفراد من خلال مواقع التواصل الاجتماعي اختلاط وتداخل المفاهيم بين متصفحي تلك المواقع حيث يتم استخدام العديد من المصطلحات والمدلولات دون معرفة معناها الحقيقي، وسبب استخدامها حيث يتم إضفاء إطار مطاط لتلك المصطلحات فيتم تفسيرها واستخدامها وفقا لأيديولوجيات معينة لتحقيق غايات معينة تغذي النعرات الطائفية والفكر المتطرف وغيرها من الأفكار الهادمة للمجتمعات. طبعاً، يمكن في هذه الفوضى العارمة أو المشاعية في دفق الرسائل أن تنفذ الجماعات الحاذقة جدّاً في إدارة المعلومات باستغلال وجذب المتصفحين وتجنيدهم لأعمال تخريبية وتفجيرات لا علاقة لها بالقيم التي يستغلّها إداريو تلك المواقع. لذا فإنّ المواد الإلكترونية التي يتمّ بثها وتسريبها من خلال تلك المواقع باتت المواد الأكثر اهتماماً والأشدّ تهديداً لأمن الدول والأشخاص وبخاصة الدردشة الإلكترونية التي يمكن من خلالها أن يتم تبادل المعلومات المهدّدة فعلياً للأمن القومي وتجنيد الشباب للعمل ضمن الخلايا الإرهابية والتنظيمات المتطرفة التي تعمل لحساب قوى معادية تستهدف أمن الأوطان واستقرارها. وهناك دول وأجهزة كبرى تقوم بتنفيذ استراتيجيات خطيرة عبر شن حملات إلكترونية واسعة النطاق تقوم من خلالها بنشر معلومات وأخبار وصور وأفلام تستهدف إثارة الفتن وزعزعة الاستقرار في دول شرق أوسطية، تحشد عبرها الأفراد وتنظيماتهم المنضوية في منظمات أو حركات وجمعيات لها طابع مدني وتلصق بها أسماء لجمعيات همّها الديمقراطية والحريّة وتحرير المرأة وحقوق الطفل وغيرها من الأفكار التي تستهدف في نهاية المطاف إثارة الفتنة وإذكاء النعرات الطائفية والانقسامات في داخل المجتمع الواحد، فتدفعه إلى حالات من التنابذ والانقسام والتحفيز على التخريب والتدمير من دون أن تحرّك جندياً واحداً تابعاً لها من مكانه.
يمكن التأكيد عبر عشرات أطاريح الدكتوراه والأبحاث التي ناقشناها العامين الفائتين أن مواقع التواصل الاجتماعي باتت من أشرس الأسلحة غير المباشرة المستخدمة لتحقيق أهداف سياسية ذات سلبيات ومخاطر كبرى على استقرار الدول والمجتمعات كونها الباب بل السجادة الحمراء التي تتسلل فوقها الفوضى والفتن والرفض والتكسير والتخريب.
لماذا هذه الإضاءات أيضاً وأيضاً؟
كي نمسك مجتمعاتنا وأجيالنا ونصونها من هذه المظاهر المخيفة، وكي نحرّض بموضوعية كاملة على الانصراف إلى التفكير الجدّي، لا بالمراقبة الدقيقة الحاصلة، بل لوضع استراتيجيات حديثة تدرس وتحلّل وتقبل وتحجب المواقع مهما كانت مضامينها مغطّاة بأساليب حوارية قد تكون مسمومة. الأمن الفكري أهم من الأمن القومي لأنّ فشل الأجيال أو تفشيلها هو الطريق السهل لتفشيل الأوطان، خصوصاً وأنّ الأجيال وتحت عناوين المعاصرة والحداثة والتحديث والموضة سرعان ما تنزلق فرائس ضعيفة للسياسات التي تستهدف هدم مجتمعاتنا بتدمير فكر شبابنا.
ولا ننسى أن الأنبياء الذين خرجوا من هذه الأرض نحو العالم ما كان بحوزتهم هواتف خلوية متعددة الأبعاد أو مواقع اجتماعية تبث أفكارهم وقيمهم لتخليص البشرية من أمراضها ودفعها نحو القيم. القيمة مضمون ليست بحاجة إلى أدوات لتسافر وتجوب وتمكث في الأرض بقدر ما هي بحاجة إلى صوتٍ ومعنى يتجاوز الثقافات واللغات والمصالح.Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى