قضايا ودراسات

«السترات الصفراء» ومحنة اليسار الأوروبي

حسام ميرو

احتجاجاً على رفع أسعار الوقود المخصص للسيارات، نزل أعضاء حركة «السترات الصفراء» إلى شوارع فرنسا، ومعهم الآلاف من الغاضبين على سياسات الحكومة الفرنسية، بقيادة الرئيس مانويل ماكرون، وخصوصاً سياساته الضريبية المحابية للأثرياء، وهو المتهم بأنه يمثّل مصالح الطبقة المالية الفرنسية، من بنوك وشركات، في الوقت الذي تضرّرت فيه عشرات الآلاف من الأسر العاملة، والتي تمتلك سيارات صغيرة، وتنتمي إلى طبقة محدودي الدخل.
ما يميز حركة «السترات الصفراء» أنها كانت سريعة الانتشار بين الفرنسيين، ولم يقف وراء تشكّلها وعملها منظّرون وأكاديميون ومفكرون، على غرار الانتفاضة الطلابية في مايو/ أيار 1968، كما أنها لم تقم بأي تشبيك مع النقابات الفرنسية، أو اليسار الفرنسي، كما أنها عبّرت عن حالة مطلبية محدّدة، واستخدمت مواقع التواصل الاجتماعي، لحشد أكبر عدد من المناصرين، ونجحت في مسعاها لتعميم الحركة في مختلف المدن الفرنسية، خلال مدّة زمنية قصيرة.
من المعروف أن اليسار الفرنسي يشهد معاناة كبيرة في خطابه وممارسته، لكنه ليس وحده في هذه الحال، وإنما أيضاً مجمل حركة اليسار الأوروبي، وقد سمح تراجعه لقوى اليمين، بمختلف تنويعاته بالصعود، كما في إيطاليا وفرنسا والمجر، بالإضافة إلى ألمانيا، حيث يتقدّم بقوة «حزب البديل»، وهو حزب يميني، يستدعي في خطابه الكثير من المفردات التي تعود إلى الحقبة النازية، خصوصاً فيما يتعلّق بمقولة «ألمانيا للألمانيين».
في بريطانيا، استطاعت القوى المحافظة واليمينية أن تخطف، عبر استفتاء شعبي، قرار البريطانيين في الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي شكّل تهديداً واضحاً لفكرة الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى كون مثل هذه الخطوة البريطانية تعبّر عن انتكاسة للقيم الأوروبية المشتركة، وعودة للسياسات الكولونيالية، القائمة على تمجيد المصلحة القومية، وإعلائها فوق كل مصلحة أخرى.
محنة اليسار الأوروبي، اليوم، لا تكمن فقط في قلّة مفكريه، وإنما في تصالحه مع الخطط النيوليبرالية إلى حدّ كبير، وفي قبوله لآليات العولمة من دون تدقيق، أو نضال ضد ما أوجدته من أزمات، على حساب الطبقات الأكثر فقراً، وانسحابه من مهمته التاريخية، كمدافع قوي عن مصالح المهمّشين، بما يخلق حالة من التوازن بين النظام الليبرالي الاقتصادي، وبين دور الدولة في منع تغوّل ذلك النظام، خصوصاً أن مجمل الدول الأوروبية الغربية، كانت قد بلورت ما يسمى «دولة الرعاية»، لكنها فعلياً لم تعد دولة رعاية الجميع، وإنما مصالح النخب الرأسمالية في المقام الأول.
إن العوامل التي لعبت دوراً تاريخياً في صعود اليسار الأوروبي أصبحت اليوم غائبة، فقد عرّفت الحركة اليسارية الأوروبية نفسها كنقيض للتوحّش الليبرالي الرأسمالي من جهة، وكنقيض للهيمنة الأمريكية من جهة أخرى، كما تضامنت مع حركات التحرر في العالم، ودافعت عن حقوق الإنسان، وكل هذا اليوم صار من الماضي، أو حالة شكلية في أدبياتها، لا تستدعي ممارسة واعية ومحسوسة.
إذاً، ما الذي بقي من خطاب اليسار الأوروبي ونضالاته؟
هذا اليسار في حالة انغلاق على الذات، وعلى همومه الانتخابية، مستفيداً من مخاوف فئات اجتماعية واسعة من صعود اليمين، ومع ذلك فإنه يتراجع انتخابياً، ويبدو فاقد الاهتمام بالقضايا البعيدة، بل ربما هو موافق على السياسات العولمية، وما ينتج عنها من حروب، فلم نشهد، منذ بداية الألفية الجديدة، أي احتجاج مهم ووازن من قبل اليسار الأوروبي، فيما يتعلّق بمناهضة الحروب، كما أن السنوات الأخيرة، شهدت صمتاً كبيراً حيال الأوضاع الكارثية التي شهدها الشرق الأوسط.
هل يخلي اليسار الأوروبي التقليدي مكانه لحركات شعبية مثل «السترات الصفراء»؟ أم أنه سيعيد حساباته تجاه مختلف القضايا المحلية والأوروبية والدولية؟
إن حركة مثل «السترات الصفراء» تؤكد بطء الاستجابة لدى اليسار الفرنسي للمشكلات المحلية، وهو ما يفتح الباب أمام تنامي الحركات الشعبية الاحتجاجية في أوروبا، بمعزل عن مرجعية الأحزاب اليسارية، أو قدرتها على قيادة مثل تلك الحركات، والتي تعبّر عن سأم مزدوج، موجّه إلى النظام الرأسمالي من جهة، وإلى اليسار الأوروبي من جهة أخرى، وهو ما ينبغي أن يستدعي مراجعة شاملة تقوم بها الحركات اليسارية الأوروبية، وهو أمر لا يبدو، ضمن المعطيات الراهنة، أنه سيحدث في الأفق المنظور.

husammiro@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى