السياسة الخارجية الفرنسية في عهد ماكرون
د. غسان العزي
منذ ولادة الجمهورية الفرنسية الخامسة في العام 1958 أراد الجنرال ديجول ممارسة سياسة خارجية مستقلة عن القوتين العظميين في زمن الحرب الباردة. من هنا خلافه مع الرئيس الأمريكي أيزنهاور وانسحابه من المنظمة العسكرية لحلف الأطلسي في العام 1966. هذا الاستقلال تأكد غداة العدوان «الإسرائيلي» في يونيو 1967عندما انتقد اليهود بعبارات جلبت له اتهامات «إسرائيلية» بمعاداة السامية. وكرد على العدوان «الإسرائيلي» على مطار بيروت في العام 1969 فرض ديجول حظراً على مبيعات الأسلحة الفرنسية للدولة العبرية.
وعلى الرغم من عودة العلاقات الفرنسية-«الإسرائيلية» إلى طبيعتها مع وصول الاشتراكي فرانسوا ميتران إلى السلطة في العام 1981، إلا أن سياسة فرنسا في عهد هذا الأخير اتسمت بالاستمرارية مع السياسة الخارجية الديجولية عموماً رغم القطيعة معها على المستوى الداخلي.
كذلك كانت حال الرئيس شيراك الذي كانت له مواقف من القضية الفلسطينية اعتبرها «الإسرائيليون» منحازة إلى العرب، وكانت له خلافات مع الرئيس بوش الابن وصلت إلى حد التهديد باستخدام حق النقض-الفيتو ضد الحرب الأمريكية على العراق في حال عرض الموضوع على مجلس الأمن الدولي.
الرئيس ساركوزي عاد وأقام أفضل العلاقات مع الولايات المتحدة و«إسرائيل» لكنه لم يستطع تخطي حدود معينة في هذه القطيعة فبقيت السياسة الخارجية دوماً قريبة من التقليد الديجولي-الميتراني. وفي عهد فرنسوا هولاند لم تحدث تغييرات ملفتة لا سيما وأن الرئيس الأمريكي أوباما كان منكفئاً إلى حد كبير في السياسة الخارجية.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم: كيف ستكون سياسة فرنسا الخارجية لا سيما في شقها الشرق-أوسطي؟
يعتبر ماكرون بأن فرنسا خسرت الكثير من نفوذها في بروكسل والشرق الأوسط والمغرب وإفريقيا، ولم تعد قادرة على المساهمة الفعالة في حل الأزمات الدولية،وذلك بسبب فشلها في القيام بالإصلاحات الاقتصادية الداخلية الضرورية وبسبب دبلوماسيتها التي باتت تفتقد إلى التوازن والعزم.
يؤكد ماكرون تعلقه بأمن «إسرائيل» رغم أنه يدعم قيام دولة فلسطينية (حل الدولتين). وفي سوريا لا يعتبر أن رحيل بشار الأسد شرط مسبق لأي حل سياسي وإن كان هذا الرحيل هدفاً ينبغي تحقيقه، ذلك أن هناك تراتبية للأولويات على رأسها مكافحة الإرهاب وملاحقة المنظمات الإرهابية التي ارتكبت أعمالاً في فرنسا وأوروبا.
بالنسبة لماكرون إذا كانت الجماعات الإرهابية في سوريا عدوة لفرنسا فإنه عندما يتم تحقيق الاستقرار في سوريا ينبغي أن يتم تحقيق العدالة الدولية. كما يعبر ماكرون عن عدم رضاه إزاء هيمنة روسيا وإيران على الأزمة السورية، إذ ينبغي إيجاد مسار حيث يجلس كل المعنيين، من ممثلي بشار الأسد والأمم المتحدة والمعارضة السورية، حول طاولة المفاوضات.
أما بالنسبة لبوتين وترامب فلا ينبغي لفرنسا أن تدير ظهرها لأي منهما، بل عليها الانفتاح على الجميع بما فيهم إيران إذا استمرت في تطبيق الاتفاق النووي ووافقت على المساهمة في الاستقرار الإقليمي. كما على فرنسا أن تتكلم مع الرياض وطهران من دون التدخل في لعبة النفوذ بين هاتين القوتين الإقليميتين، ومن دون الانحياز لأي منهما، مع تبني سياسة حوار جدي هادف معهما.
بالنسبة لسياسة فرنسا المتوسطية يجب أن تقبع في قلب الدبلوماسية الفرنسية رغم أن منطقة المتوسط ليست حكراً على فرنسا بل تعني أوروبا كلها. فالخطأ الذي ارتكب في السابق هو أن «الاتحاد من أجل المتوسط» كان مشروعاً فرنسياً أكثر منه أوروبياً. لذلك يجب إشراك أوروبا وألمانيا تحديداً والتوقف عن اعتبار المتوسط منطقة نفوذ لأي كان.
إن التأمل في مواقف ماكرون وأفكاره ووعوده الانتخابية لا يشي بأن الرجل يريد إحداث قطيعة في السياسة الخارجية الفرنسية التقليدية. ومن المؤكد أن لمساته الخاصة ستكون حاضرة في صياغة القرارات الخارجية، وهذا أمر طبيعي، لكنه في المواقف الأساسية سيبقى على الأرجح ديجولياً-ميترانياً بامتياز، فحركته (إلى الأمام) تصف نفسها بالوسطية وفي حكومته الأولى يمينيون ويساريون جنباً إلى جنب. لكن من المتوقع أنه في مقابل الحرارة التي ستدب في جسم العلاقة مع ألمانيا فإن العلاقة مع واشنطن ستتسم بالكثير من البرودة لأسباب عديدة منها الاختلاف الكبير بين شخصيتي ماكرون وترامب ورؤيتهما إلى العالم.