الصندوق الأبيض
خيري منصور
قبل أقل من قرن لم يكن هذا الصندوق معروفاً في عالمنا العربي، لأن أول إذاعة أنشئت كانت في مصر مطلع ثلاثينات القرن الماضي، ومن كان يملك هذا الصندوق الأبيض كان الناس من حوله يتصورون أنه يملك صندوق العجب أو الصندوق الأسود، لكن لأسرار العالم في ذلك الوقت، وما كان يدور فيه ما بين حربين عالميتين.
وتكريس يوم دولي للمذياع ليس فقط تخليداً لذكرى اختراع صال وجال حين كان بمفرده مصدر الأخبار، إنه أيضاً اعتراف بفضل هذا الصندوق الذي كسر حواجز العزلة في القرن الماضي، ورغم كل ما أعقبه من اختراعات تفوقت عليه، إلا أنه لم يهجر وله من يستمعون إليه ويستمتعون بأغانيه وبرامجه، على الأقل في سياراتهم وهم يقطعون مسافات طويلة.
وهناك من يشبّهون المذياع الخشبي الذي كان يتصدر صالونات البيوت بالحصان الذي شهد في الماضي أمجاداً لم يعرفها حيوان سواه. فقد كان محارباً وزفت عليه عرائس وتضمخ شعره بأطيب العطور، ثم حلت مكانه أدوات أخرى أسرع منه، كالدبابة في الحرب والسيارة في السلم. وعلى الرغم من ذلك لم يفقد الجواد الأصيل اعتباراته القديمة، لأنه تحول إلى رمز للفروسية المشتقة من اسم أنثاه، وكما أن السينما لم تحذف المسرح وتحل مكانه، والتصوير الفوتوغرافي لم يسدل الستار على الفن التشكيلي، فإن كل ما أنتجته ثورة التكنولوجيا في المعلومات ومصادرها لم تجعل من المذياع أداة مكانها المتاحف، وكما تعددت القنوات في الفضاء الذي أصبح يعج بالآلاف منها، فإن الإذاعات الآن لا تحصى خصوصاً في النطاق المحلي ولها مستمعوها.
لقد لعب هذا الصندوق دوراً لا يستهان به في تاريخ الإعلام، وكان الناس يرون ما يصدر عنه بآذانهم عبر الخيال، وهو جدير بأن يكرس له يوم عالمي، لأنه كان ذات يوم الوسيلة الوحيدة بعد الصحافة لمعرفة ما يحدث والأذن تعشق قبل العين أحياناً!