قضايا ودراسات

الطبقة الوسطى المغلوبة على أمرها

قرأتُ بالأمس منشوراً لسيدة مصرية تنحدر ممن جرى وصفها بالطبقة الوسطى، تقول فيه ما معناه: إنها مستعدة للعودة إلى أربعينات القرن العشرين، يوم لم تكن في منازل هذه الشريحة وسائل مساعدة كالغسالة والثلاجة والمكيف، شريطة أن تعاد إلى المجتمع مفردات تلك الحقبة كلها، بطقوسها وناسها وظروفها الاقتصادية وأخلاقياتها.
وفي ما يشبه الرثاء لهذه الطبقة الوسطى تقول هذه السيدة: «أنا من الطبقة الوسطى المجني عليها والتي لا تملك رفاهية الاختيار، رغم أنها من منح الحياة طعماً ولوناً، وكانت عاقبتها الحكم عليها بالنفي خارج حدود الرفاهية».
مرة أخرى نحن أمام ما وصفناه هنا مرة ب «محنة» الطبقة الوسطى العربية، التي هي الوازن الضروري للمجتمعات، كونها الأفضل تعليماً وتدريباً مهنياً، والأكثر مقدرة على التفاعل مع التقانة والمعارف الحديثة، وبالتالي هي الأكثر قابلية للتفاعل مع الجديد، وهو على كل حال دور أدته شرائحها في مراحل فاصلة من التاريخ العربي الحديث، رغم ما كانت تعانيه، هي ذاتها، من تمزقات واختلالات، عبّر عنها خير تعبير أدب نجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وسواهم، الذين وجدت الكثير من أعمالهم طريقها للسينما في مراحل سابقة كانت أكثر حيوية من راهننا.
لكن هذه الطبقة تعرضت وتتعرض لإفقار مستمر، يطالها كما يطال قبلها وبعدها الفئات الأكثر تهميشاً وعوزاً، أمام تردي الأوضاع المعيشية في البلدان العربية قاطبة، حتى وإن تفاوتت المستويات والنسب، وفاقم من ذلك انهيار الدولة في بلدان عربية رئيسة كان لهذه الطبقة ثقلها العددي والنوعي فيها، بسبب الحروب الأهلية والتدخلات الخارجية والفساد المستشري في أجهزة الدولة.
هذه الظاهرة لم تنشأ في السنوات الأخيرة التي تلت تحولات 2011 وارتداداتها، فمقدماتها سابقة لذلك. حسبنا هنا أن نشير إلى ما فعلته الحرب الأهلية في بلد مثل لبنان كان حتى مطالع سبعينات القرن الماضي في حال من الازدهار الاقتصادي، وبه طبقة وسطى ذكية ومتعلمة، أصابتها الحرب بالخراب والإفلاس، فآثرت الكثير من نخبها الهجرة، ومن بقي منها ناله الإفقار، حيث نشأ اقتصاد حرب انتفعت منه الميليشيات المسلحة وأمراء الطوائف، الذين هم أنفسهم أمراء الحرب.
في العراق أدت المغامرات العسكرية لنظام صدام حسين ثم الحصار الجائر الطويل الذي فرض على الشعب العراقي إلى نتائج مشابهة، حيث انهار الدينار العراقي الذي كان من أقوى العملات العربية، إن لم يكن أقواها على الإطلاق، ووجد التكنوقراط العراقيون المشهود لهم بالكفاءة في شتى المجالات أنفسهم محمولين على الهجرة، أو الانزواء عن أي دور بعد أن باتوا في دائرة الفقر، لا بل والعوز.

د. حسن مدن
madanbahrain@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى