الطريق والحزام الصينيان
د. عمر عبدالعزيز
ما جرى ويجري في الصين ليس وليد مفاجآت عابرة، بل هو نتيجة حتمية لحكمة استمدت مفرداتها من الاعتقاد الجازم بأن هناك دوماً بعداً ثالثاً لكل ظاهرة، وبهذا المعنى تمكنت الصين منذ عهد زعيمها المؤسس ماو تسي تونج من أن تحتفظ بمسافة إجرائية، بين نموذج الرأسمالية الأمريكية، والستالينية السوفييتية، وقد انعكس ذلك الأمر في ما سمي في ستينات القرن العشرين المنصرم بسياسة العصرنات الأربع، التي اقتضت بناء نموذج اشتراكي لا يمانع من التعامل مع (الأعداء الإمبرياليين)، كما كانت المصطلحات الأيديولوجية السائدة تقول ذلك.
وفي تلك الفترة بالذات، تقاطعت استراتيجيات الصين واليابان من طرف خفي، على رغم مرارات الصدام الدموي بينهما قبيل وأثناء الحرب العالمية الثانية، فقد كانت اليابان قد اختطّت لتوّها درباً خاصاً في تكنولوجيا المعرفة، حيث اعتبرت نقل التكنولوجيا للغير سبباً في تطور الأبحاث العلمية لديها، ولم تمانع كبريات الشركات اليابانية العابرة للقارات من التعامل المنفتح مع عدو الأمس القريب (الصين)، فرهانها لم يعد مرتبطاً بما حققته من تقدم وتميز تقني، بل بما ينبغي أن تواصله على درب التطوير المستمر، وهو أمر صعب المنال في ظل سياسات الاحتكار للمعرفة التقنية، وبالمقابل وجدت الصين ضالتها في الشركات اليابانية، وتعاملت معها ببراجماتية فريدة المثال، وبواسطتها تمكنت من تسليك الدرب نحو نهضة معرفية تكنولوجية.
من المؤكد أن المرحلة (الماوية) التالية لإشهار جمهورية الصين الشعبية انطوت على قدر كبير من التجريب المربك، وخاصة في إطار ما سمي آنئذٍ بالثورة الثقافية.. لكن ذلك الإرباك وتلك الإخفاقات تساوقت مع إرادة خاصة للخروج من شرنقة الدوجما السياسية، وقد انعكست تلك الفكرة اللماعة في أذهان كبار القياديين في الحزب الشيوعي الصيني، وفي مقدمتهم (دينج تشياو بنج)، ولم يستعجل هؤلاء في سياساتهم الجديدة استبعاداً لصدام داخلي قد يقتل التجربة برمتها، بل انتظروا اللحظة المناسبة، وكانت وفاة ماو تسي تونج هي اللحظة، وكان شعار دينج تشياو بنج هو التميمة السحرية للخروج من علبة الماوية التطبيقية من خلال شعاره: ليس مهماً ما لون الهرة، بل المهم أن تجيد اصطياد الفئران.
ذلك الشعار كان المنطلق لما سمي في أدبيات الحزب الشيوعي الصيني بالاشتراكية ذات النمط الصيني.. وتحديداً السير المتوازي في الاشتراكية بوصفها نظام ضمان اجتماعي شامل لبلد يضم ربع سكان العالم، والرأسمالية في بعديها الإداري والتنموي بوصفها المخرج من تكلس الاقتصاد وجموده، وهكذا دارت عجلة التنمية لتتجاوز كل سقف معروف في التنمية، حيث تاخمت 15 في المئة، الأمر الذي حدا بالقيادة الصينية لتخفيض هذا النمو إلى 8 في المئة خدمة للاقتصاد الداخلي والعالمي أيضاً، ذلك أن الغمر الإنتاجي الصيني، قد يصل إلى هدر منهجي لتريليونات القيم المادية الناجمة عن فرط الإنتاج.
اجترحت الصين مأثرة المزاوجة بين نظامين كانا أبعد ما يكونان عن التواشج، وأثبتت الصين بهذا المعنى إمكانية الخروج من شرنقة الثنائية القطبية نحو عالم متعدد الأقطاب والنماذج، وهو ما دعت إليه بثبات منذ الانهيار الحر للاتحاد السوفييتي.
المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي الصيني لم يكتف بتأكيد هذا الخيار فحسب، بل نقل الصين إلى موقع المشاركة العالمية الشاملة في بلورة هذه التعددية، استناداً للاعتراف الصيني الفريد بأنها تمثل ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأنها على استعداد للمشاركة في إخراج البشرية من ثقافة الاستقطاب والتنافي، وإطلاق العنان لمبادرتها الاستثمارية التجارية والتنموية الكبرى بعنوان (الطريق والحزام)، والتي استوعب مقدماتها وشارك في إطلاقها عشرات الدول ومئات الشركات العابرة للقارات.
من تسمية المبادرة يمكن تلخيص مفاهيمها التطبيقية في التالي:
الاستمرار في سياسات الصين الواحدة وتعدد الأنظمة.. الاستمرار في سياسات التنمية التي لا تكشف الجماهير ولا تعطل آلة العمل العصرية المرنة.. الاستمرار في مساندة الدول الفقيرة والنامية على قاعدة المثل الصيني (لا تعطني سمكة، بل علمني كيف اصطاد السمكة).. تحويل فكرة التعددية القطبية إلى خيار جبري وموضوعي، من خلال مبادرة إحياء طريق الحرير التجاري التاريخي.. نشر مظلة تنموية متجددة أساسها النانو تكنولوجي والطاقة البديلة.. التعاون الشامل مع العالم من موقع الداعم للأقل فرصة في النمو، والاستفادة من الميزات النسبية لاقتصاد المعرفة أينما توفر.
تلك هي الوعود الصينية الجديدة التي تبدو كما لو أنها البديل العاقل لثقافة الحروب والاستقواء والمصادرة.
تواصل الصين اليوم تدوير مبادرة الطريق والحزام. الطريق يطول بحيث يشمل العالم، والحزام يمنطق الطريق بالجدية والمتابعة والمثابرة والتعاون وتذليل الصعاب.
omaraziz105@gmail.comOriginal Article