العدالة البيئية بين المفهوم والتطبيق
تأليف: ديفيد نجيب بيلو
ترجمة وعرض: نضال إبراهيم
لطالما كانت المجتمعات الإنسانية مترابطة بعمق مع النظم البيئية، ولكن اليوم تشهد هذه العلاقات المزيد من الاحتكاك والتوتر والأذى بشكل لم يسبق له مثيل. وتنعكس الأضرار على المجموعات المهمشة بشكل خاص. يأتي هذا الكتاب ليقدّم إطاراً جديداً للتحليل النقدي لنشاط العدالة البيئية. ويوسع مجال تركيزه على موضوعات لا ترتبط عادة بالعدالة البيئية، مثل الصراع «الإسرائيلي»/ الفلسطيني، وحركة حياة السود في الولايات المتحدة. ويكشف عن أن العنف الإيكولوجي هو شكل من أشكال العنف الاجتماعي، تدفعه الهياكل والخطابات الاجتماعية والسياسية.
من ناحية التعريف، يمكن إيجاز «العدالة البيئية» بأنها «المعاملة العادلة والمشاركة الهادفة من جميع الناس، بغض النظر عن العرق أو اللون أو الأصل القومي أو الدخل، فيما يتعلق بتطوير وتنفيذ القوانين والأنظمة والسياسات البيئية».
حيث إن المعاملة العادلة تعني أنه لا ينبغي تحميل أي مجموعة، بعينها، من الناس حصة غير متناسبة من النتائج البيئية السلبية الناتجة عن العمليات أو السياسات الصناعية والحكومية والتجارية.
وعلى ذكر المشاركة الهادفة (أو الفعالة) فلعلّ أبرز ما تشير إليه (من بين نقاط عدّة) إتاحة الفرصة للأشخاص للمشاركة في عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بالأنشطة التي تؤثر في بيئتهم أو صحتهم.
لماذا دراسات العدالة البيئية؟
ضمن هذا الإطار العام، يأتي كتاب المؤلف والباحث في الشؤون البيئية ديفيد نجيب بيلو «ما هي العدالة البيئية الحرجة؟» والصادر حديثاً عن دار نشر «Polity
» في 200 صفحة، ليقدم وجهة نظر تفصيلية ومعمقة لهذه المسألة التي تتزايد أهميتها يوماً بعد يوم؛ إذ إنه مع اكتساب مفهوم العدالة البيئية أبعاداً جديدة، لم يعد الاهتمام بالبيئة مقصوراً على حماية الأشجار والطيور والأنهار والنباتات والحيوانات، بل أصبح من الواجب التركيز على الاهتمام بحماية حياة الناس: أين يعيشون ويعملون ويتعلمون ويلعبون. إنه مفهوم شامل لقضايا البيئة، بالاعتماد المتبادل بين الناس والبيئة الطبيعية والثقافية والاقتصادية التي يعيشون فيها. وهذا المفهوم: «العدالة البيئية» يستجيب لأنواع التمييز المختلفة التي تتعرض لها مجموعات من البشر بسبب اللون أو الجنس أو انخفاض الدخل أو حتى العيش في منطقة جغرافية معينة.
يتألف الكتاب من مقدمة وأربعة فصول وخاتمة. في الفصل الأول «دراسات العدالة البيئية الحرجة»، يستعرض الكاتب دور هذا المفهوم وأهميته في حياتنا المعاصرة، وتأثيره في المستقبل. وهو يطرح سؤالاً مباشراً: «لماذا دراسات العدالة البيئية الحرجة؟» ويجيب بالقول، «للإجابة عن ذلك السؤال، يتعين عليّ في البداية أن أقدّم نظرة عامة إلى مجال دراسات العدالة البيئية. لكن قبل أن يفكر المرء بالبحث العلمي والأكاديمي المتعلق بالعدالة البيئية، ينبغي أن يبدأ ب«حركات» العدالة البيئية، التي ظهرت أواخر سبعينات ومطلع ثمانينات القرن العشرين.
والكاتب، يشير بهذا التمهيد إلى الجمعيات البيئة التي بدأت تلاحظ آنذاك أن المعامل وغيرها من المنشآت التي ينجم عنها إلقاء نفايات خطِرة على صحة الإنسان تبنى في المناطق الفقيرة، والتي تسكنها أغلبية ساحقة من الأفارقة الأمريكيين؛ إذ تنفث هذه المعامل والمحارق سمومها، وتطرح فضلات التصنيع في هذه المناطق بشكل ازدادت معه الإصابات بأمراض خطِرة بين أفراد هذه الشريحة الاجتماعية.
ويقول الكاتب، إنه «منذ الأيام الأولى لهذه الحركات، طالب النشطاء بالعدالة البيئية، ليس في جزئية إغلاق المصانع والمنشآت التي تطرح نفايات سامة فحسب، بل كانت مطالباتهم تشهد منظوراً أوسع من خلال المطالبة بالوصول إلى المساحات الخضراء والمنتزهات وتأمين الطعام الصحي. إضافة إلى تطبيق سياسات عادلة ومستدامة بيئياً فيما يتعلق بالمسائل المرتبطة بالمناخ. والمطالبة باتخاذ الإجراءات القانونية لضمان معاملة عادلة ومنصفة لجميع أفراد المجتمع، دون تمييز بسبب عرق أو لون أو جنس؛ للتمتع ببيئة صحية ونظيفة. وتجنب تأصيل أية طبيعة تمييزية تحمّل أفراد المجتمع عبء العيش في مناطق ملوثة، بسبب لونهم أو عرقهم أو جنسهم أو ثقافتهم».
وبهذا، فإنه من الممكن القول، إنه منذ البدايات، كوّنت تلك الحركات رؤية واضحة لمستقبل عادل ومستدام.
التمييز العنصري والعدالة البيئية
وانطلاقاً من التأكيد على أهمية تعريف الباحث روبرت بولارد للعدالة البيئية بأنها «مبدأ حق الناس جميعاً بحماية متساوية ومتكافئة للبيئة وقوانين الصحة العامة وإجراءاتها»، ينطلق الكاتب في الفصل الثاني «حركة حياة السود مهمة كتحدّي عدالة بيئيّ» ليناقش هذه المسألة الحساسة في المجتمع الأمريكي.
تعود جذور تحديات العدالة البيئية الأمريكية إلى نشأة الولايات المتحدة ذاتها. فقد جرى استيراد السود ك «عبيد» من القارة الإفريقية؛ ليكون شكل المجتمع طبقياً وتتجذر فكرة التمييز بين طبقاته. لم يُسمح للعبيد بالعيش في المناطق التي يريدونها. ونظراً لقلة دخلهم، لم يستطيعوا الحصول على الخدمات الصحية والتعليمية، مما جعل المناطق التي يعيشون فيها تفتقد للخدمات الأساسية، وشروط إدارة الموارد البيئية فيها بشكل سليم.
طبّقت قوانين الفصل العنصري المعروفة باسم «قوانين جيم كرو» (Jim Crow Laws) في الولايات الجنوبية من عام 1876 حتى عام 1964، وكانت تمنع السود من الوصول إلى الموارد الطبيعية، وتفرض عليهم العيش في مناطق محددة، بعيداً عن المناطق التي يقطنها البيض. وكانت مناطقهم، بحكم هذه القوانين، تخلو من شروط الإدارة البيئية السليمة، ما أدى إلى تحولها لاحقاً إلى بؤر تلوث.
يورد الكاتب كلام الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، خلال اجتماع هيئة لمناقشة إصلاح العدالة الجنائية في سوبرفيل عام 2015، حين قال: «أعتقد أن منظّمي الحركة لم يستخدموا عبارة «حياة السود مهمة» للإشارة إلى أن حياة السود بالتحديد هي المهمة ويتجاهلوا بالتالي حياة الآخرين. وإنما كان ثمة تصريح بأن هناك مشكلة محددة تحدث في المجتمع الإفريقي- الأمريكي، ولا تحدث في المنظومات الاجتماعية الأخرى. يترتب علينا كمجتمع – وبالنظر إلى تاريخنا- أن ننظر إلى هذه المسألة بجدية.. إنه أمر حقيقي، وثمة تاريخ وراءه».
كما يتوسع الكاتب في بحثه ليشير إلى تقارير رسمية منشورة عام 2016 تتعلق بإدارة شرطة بالتيمور، تثبت وجود تحيزات جندرية، على شكل تحقيقات غير مكتملة أو وافية، في قضايا اغتصاب أو اعتداءات جنسية.
وبحسب الكاتب، فإن للإطار النظري لدراسات العدالة البيئية دوراً في تسمية ونقد مشاكل التحيز الاجتماعي، واختلالات القوة الكامنة داخل مؤسسات الدولة. وهو ينتقد بشكل صريح «تجاهل النظر إلى هذه العلاقات الاجتماعية الشائكة، والتردد في اعتبارها كعوائق رئيسية أمام تحقيق العدالة البيئية». ويتابع قائلاً، إنه على الرغم من تراكم الأدبيات التي أدانت التمييز العنصري والسيطرة الطبقية وإساءة استخدام سلطة مؤسسات الدولة، فإن مجال دراسات العدالة البيئية يقدم وصفة للتغيير، تقوم على المؤسسات والأنظمة الاجتماعية التي تعمل كشريكة فاعلة في صناعة مستقبل عادل.
العدالة البيئية ونظام السجون
في الفصل الثالث «السجون والكفاح من أجل العدالة البيئية»، يقدّم الكاتب نظرة مفصّلة للفكرة العامة التي خطط لها في هذا الفصل؛ مسألة السجون في الولايات المتحدة، وربطها بالإطار العام لدراسات العدالة البيئية.
وهو يفتتح الفصل الثالث بالقول، إن الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك أكبر نظام سجون على الأرض، وأكبر عدد من السجناء بين دول العالم. ويشير إلى أنه منذ سبعينات القرن العشرين حتى الآن، شهدت الولايات المتحدة الأمريكية زيادة بنسبة 700 في المئة في عدد السجناء، «ما يؤدي إلى نتيجة أن الولايات المتحدة تمتلك نسبة 25 في المئة من السجناء في العالم، بينما لا تشكّل أكثر من 5 في المئة من التعداد السكاني في العالم».
وعن علاقة هذا بالعدالة البيئية، يشير الكاتب إلى أنه مؤخراً (منذ عام 2015) ظهر اهتمامٌ يحمل طابعاً جدياً في دراسة العلاقات بين نظام السجن الأمريكي والتهديدات البيئية. وكشفت العديد من الدراسات والتقارير المتخصصة احتمال تأثر صحة السجناء بطبيعة التشكيل العمراني والمحيط البيئي للسجن. ولا يغفل الكاتب بحث الموضوع من خلال دراسة علاقة هذه التأثيرات بكون السجناء من البيض أو الملونين.
الممارسات «الإسرائيلية» الجائرة
جاء الفصل الرابع من الكتاب بعنوان «الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي» كنضال نحو العدالة البيئية»، ويبحث الكاتب فيه دراسة علاقة العدالة البيئية بالصراع الفلسطيني «الإسرائيلي» على أرض فلسطين.
ويقول، إن ثمة سياسة متوحشة ومنهجية تمارسها سلطات الاحتلال «الإسرائيلي»، من خلال الاعتقالات والعنف وامتلاك السلطة غير الشرعية، لتطبيق سياسة غير عادلة تجاه الفلسطينيين، والسيطرة عليهم واستغلالهم كأشخاص، والتحكم بالنظم البيئية التي يعيشون ضمنها وتقوم حياتهم عليها.
في مطلع الفصل الرابع، يقول الكاتب، إن الصراع الفلسطيني/ «الإسرائيلي» يعدّ «من أشدّ حالات الصراع الديني، الجيوسياسي، الاجتماعي والبيئي استعصاء وتعقيداً في الوقت الراهن». وهو يشدد على أهمية اعتبار الموضوع شديد التعقيد بالنظر إلى التفاصيل التاريخية المتعلقة بماضيه، إضافة إلى طبيعته الراهنة وتأثيراته المستقبلية.
بمعنى آخر، يقول الكاتب، لن تجد أجوبة سهلة وبسيطة على أسئلة من نوع «ما هذا الذي يحدث؟ أو «ما هو الحل؟». وفيما يُنظر إلى هذا الصراع من جوانبه الإثنية والدينية، فإن هناك نوعاً من التجاهل الحاصل تجاه أبعاده البيئية، مع أن هذه الأبعاد تعدّ نقاطاً أساسية ومركزية في هذا الصراع».
ومن هنا، يأتي اختيار الكاتب ربط الصراع الفلسطيني/ «الإسرائيلي» بموضوع دراسات العدالة البيئية ليلقي الضوء على ممارسات جائرة تقوم بها السلطات «الإسرائيلية» تجاه المواطنين الفلسطينيين، مما يهدد حياتهم ومحيطهم البيئي والاجتماعي.
يعود الكاتب إلى الجذور التاريخية للصراع الفلسطيني/ «الإسرائيلي»، ابتداء بهجرة اليهود من أوروبا وروسيا في ثمانينات القرن التاسع عشر في تمهيد لقيام الدولة اليهودية، وصولاً لوعد بلفور عام 1917 الذي دعم الحركة الصهيونية. لكن بعيداً عن الاستعراض الموجز الذي يورده الكاتب، فإنه يربط الصراع الفلسطيني/ «الإسرائيلي» بدراسات العدالة البيئية من ناحية حقيقة الممارسات الجائرة المفروضة، وعدم توازن القوى بين منظومتين اجتماعيتين وإثنيتين متصارعتين على التاريخ، الذاكرة، الأرض، الماء، الزراعة وحق الوجود.
ويشير الكاتب إلى أن مقاربة الجيل الأول من هذه الدراسات لهذا الصراع كانت «تركز بشكل كبير على العلاقة المكانية (الجغرافية) بين الإثنية والتهديدات البيئية، وكيف أُنتجت هذه الآليات عبر صنع القرارات السياسية».
ويقرّ الكاتب باتباعه هذا المنهج، لكنه في الآن ذاته يشير إلى ضرورة توسيع نطاق البحث، ليشمل قطاعاً أكبر من الفئات الاجتماعية المختلفة والمتباينة، عبر أساليب متعددة المراحل والدرجات؛ بغية الوصول إلى توجيه الدولة والتأثير فيها من أجل تطبيق ممارسات بيئية تضمن المستقبل المستدام للجميع.
يستعرض الكاتب أمثلة عديدة من الممارسات المرتكبة بحق الفلسطينيين، وهو يستشهد بالمؤرخ «الإسرائيلي» ثيودرو كاتز الذي ذكر مجزرة جماعية تعرض لها أهل قرية الطنطورة الفلسطينية قرب حيفا؛ حيث قتل أكثر من 200 شخص، ودفنت جثامينهم في مقبرة جماعية. كان ذلك بين عامي 1947 و1948، حين هجّر أكثر من 750 ألف فلسطيني أصبحوا لاجئين، وأرغموا على ترك أرضهم ووطنهم الأصلي.
كما يشير الكاتب إلى أن هذه الممارسات، سابقاً وحالياً، تعدّ في صلب الدراسات البيئية؛ إذ إن احتلال أرض ما وتشريد أهلها وتغيير هويتها يعدّ من العوامل المؤثرة في البيئة بتعريفها الأوسع والأشمل، ما سيؤدي لاحقاً إلى تأثيرات خطِرة.
نبذة عن الكاتب
الكاتب والباحث ديفيد نجيب بيلو (1969)، أستاذ الدراسات البيئية، ومدير مشروع العدالة البيئية العالمية في جامعة كاليفورنيا، سانتا باربرا وأستاذ علم الاجتماع في جامعة منيسوتا، وهو أحد الأسماء المهمة في طرح مواضيع تتعلق بالبيئة والمناخ. كرّس جهوده لتناول مفهوم العدالة البيئية بالتفصيل وتطبيقه؛ بغية تحقيق مستقبل مستدام يحظى فيه الجميع بحقهم في بيئة عيش مناسبة ومتكافئة وصحية، بغض النظر عن العرق والجنس والثقافة. من أهم كتبه «حروب النفايات» (2002). أما أحدثها فهو كتاب «ما هي العدالة البيئية الحرجة؟» (2017).