قضايا ودراسات

العلمانية السياسية

محمد خليفة
يعود مصطلح العلمانية في الأساس إلى«العالمانية» وهي حركة سياسية أخذت تتصدى للكهنة. فهي حركة تدعو إلى تحرير الفكر من كل تأثير مفارق لمكوناته، أي بالاحتكام إلى معايير سياسية محضة تتجلى في تحول الأفراد من ولائهم لمرجعيات أخلاقية وموروثات فكرية إلى ولائهم للدولة أو ما يعبر عنه بالوطن، وما يفرض بالضرورة معالجة المفهوم في صيرورته التاريخية وتحولاته الإنسانية؛ إذ إن العلمانية ليست فكرة ثابتة ظهرت مكتملة، بل هي في تحول مستمر مرتبط بديناميكية المجتمع وتعتبر اللحظة الأساسية لنشوء فكرة العلمانية في الفكر العالمي والتي لا تنطوي على فكر سلبي من الدين وإنما يجب تأكيده حول مفهوم العلمانية هو الحق في نقض أي تصور للدولة الدينية، التي يدعي رجالها تفويضاً إلهياً مقدساً لحكم الشعوب.
وتطورت العالمانية لتصبح العلمانية، وتؤكد ذاتها في القرن التاسع عشر كنزعة تجريبية دفعت بالفلسفة المادية إلى الصدارة، وقامت على إيمان حاسم بأن كل ما هو غير مادي لا يصلح لأن يكون موضوعاً للبحث العلمي. ودعت هذه العلمانية إلى عزل الدين عن المجتمع. ويجدر الإشارة إلى الفلاسفة الماديين من أمثال: فولتير وديلامتري وفويرباخ.. فهؤلاء جميعاً قالوا إن كل ما في العقل يأتي من الحس، وإن العقل هو الذي يقوم بتشكيل العالم. ولكن هذا الربط يبقى إيديولوجياً يقصد إليه صاحبه وليس ارتباطاً يفرضه الانتماء للحداثة كموقف من العالم.
وكان أبرز من حاول إدخال مفاهيم جديدة، وإعادة النظر في كافة الفلسفات والمذاهب الاجتماعية والسياسية التي عرفتها حضارة أوروبا، إيمانويل كانت، الذي يُعد آخر فلاسفة عصر التنوير، في كتابه «فلسفة القانون والسياسة» لإيجاد نزعة تنويرية في التراث العالمي؛ من خلال وقوفه على بعض الأفكار والنزعات الإنسانية التي رسمت ملامح عصر التنوير، أو ما يُطلق عليه عصر النهضة فيما بعد. فالنزعة الإنسانية ليست حكراً على حضارة دون أخرى؛ فالإنسان هو المحور الأساسي في الوجود، وعلى هذا المنطلق فالفهم التاريخي للوجود حدد النزعة الإنسانية بالحضارة الأوروبية أو الفاوستية وحدها دون بقية الحضارات. وعلى ذلك فالنزعة الإنسانية في المذهب الوجودي تختلف في فهمها عند بقية المذاهب الأخرى، لأن المذهب الوجودي يعتمد في تحديده للنزعة الإنسانية على أن الإنسان هو مركز الوجود، وأن الوجود الحق هو الوجود الإنساني.
وبما يعني أن الحضارة العربية لم يتم فيها شيء بشأن النزعة الإنسانية، ولذلك لعدم توفر الشروط الملائمة، المناخ، التي توافرت في أوروبا، في كافة المجالات والذي يُعزي كل تقدم في الحياة إلى هذا الإنسان، لا إلى أشياء خارجية فيزيائية مادية كانت أوميتافيزيقية. مُشيداً بالعقل كمصدر وحيد للمعرفة، في حين اعتبر البعض أن التجربة وحدها هي مصدر المعرفة. وقد اتفق الفريقان أن مصدر المعرفة مادي لا غيبي، وتقوم في جوهرها على أساس الشعور العالي بأن العالم الإنساني الحقيقي يقوم في الاستقلال المطلق للعقل، مما يؤدي إلى فلسفة تأملية تؤمن بالفكر الوجودي، وتعمل على نشره في مختلف الأوساط الاجتماعية والثقافية داخل الحياة العامة، ومنها تُستمد معايير التصرف والسلوك العام في الحياة الواعية للإنسان. وكذلك ارتباط القانون بالحق السياسي والعلاقة القانونية بين كافة الأوطان ومدى ارتباطها بالقانون الكوني أو العالمي، والذي يعتني بالعمل في المجتمع المدني من خلال الوضع الأساسي الراسخ للقانون الطبيعي بالمعنى المحدد وللقانون الدولي. كما جعل من القانون الطبيعي الأساس في القانون الدولي العلماني الذي يفرض نفسه على جميع الناس، في وضع قانون يشمل الدول والأديان المختلفة. وكذلك يفصل بين القانون اللاهوتي، في نسبة الأفعال الإنسانية، وقانون العمليات العقلية الخاصة بالاستنباط المحض العلماني على أساس القانون؛ بحيث يُنظر إلى حال المجتمعات والدول، من خلال القانون الاجتماعي والقانون المدني، تأسيساً لمذهبٍ في الأخلاق الاجتماعية على أساس قيام أخلاق قانونية، قائمة بذاتها، على صورة أخلاق تجسد حرية التشريع الذاتي الأخلاقي والإرادة القانونية، تُهيمن على مدونات القوانين كلها؛ من نظريات جوهرية من التراث والإيديولوجيات الفلسفية العلمانية.
وكما هو معروف فالإيديولوجيا عبارة عن نسق من الآراء والأفكار والنظريات السياسية والحقوقية والدينية والأخلاقية والأدبية والفلسفية، لمواكبة الثورة العلمية الجديدة، وهي تتطلب الإقرار بمفهوم جديد للكون؛ وبخاصة مادية هذا القرن، التي هي بمثابة مرحلة التحول على الأسس العلمانية.
ولا ريب أن الجميع يعلم أن العلمانية جاءت بمثابة الثورة على فلسفة المدرسة المسيحية، التي تسلب الإنسان العقل والإرادة، بل وجعلت الإنسان نفسه عرضة للمادة والحركة حين تواكب الأمة تغيرات العصر في كافة الإيديولوجيات الاقتصادية والسياسية والأخلاقية والجمالية والفلسفية. ولذلك فإن العلمانية فلسفة جديدة، وعلومية حديثة، أصبحتا تستوجبان قيام نظام حضاري عالمي جديد يحتوي كل ما سبقه من إيديولوجيات وضعية عرفها العالم منذ مطلع القرن السادس عشر حتى يومنا هذا للحضارة المادية بشقيها اللبيرالي والرأسمالي.

med_khalifaa@hotmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى