مقالات عامة

القارئ الأجمل من الكاتب

يوسف أبو لوز

إلى جانب كل كاتب هناك قارئ.. هادئ دائماً، والأرجح أنه يقرأ ببطء.. يقرأ ما يسمونه ما تحت السطور وما فوقها. قارئ عارف، ونبه، وفي الكثير من الأحيان هو قارئ متسامح لأنه يعرف أخطاء الكاتب، فيتغاضى، أو يمرر ما لا يجب أن يُمرَّر.
مثل هذا القارئ هو كاتب، أو هو الكاتب الذي يوجه كاتبه من وراء ستار، بلطف، وعناية، وحنوّ آدمي بسيط مثل بساطة قصة قصيرة ليوسف إدريس، أو «الغامض».. أو «هنري»، أو الشفاف نبيل عبد الكريم، قصص قصيرة على شكل روايات لا نهاية لها.
مثل هذا القارئ، هو أيضاً حارس ومعلم.. لا يزعم أبداً أنه يحرس، ولا يزعم أنه يُعلم، وكل ما في الأمر أنه يقرأ بهدوء واعتناء أبوي بالكتابة التي هي حبل الصداقة بينهما: الكاتب، والقارئ.
أحياناً، يتحول القارئ إلى ناقد يعيش في كيان الكاتب، أي يشعره بالخوف.. الخوف من الخطأ.. الخوف من المعلومة غير الصحيحة، الخوف من اللغة غير الصحيحة، والأكبر من ذلك.. الخوف من الكتابة نفسها.
هل تبعث الكتابة على الخوف؟.. أو أن الكتابة في حدّ ذاتها التي لا حدود لها هي الخوف.. أي هي السلطة الأبوية الرحيمة.. أي أن القارئ سلطة، ولكنها، رحيمة.. هادئة، ومتسامحة؟
خذ مثلاً ما وقع فيه آرنست همنغواي عندما أعاد كتابة الصفحة الأخيرة في روايته «العجوز والبحر» ثلاثين مرة، وقد كان يبحث عن خاتمة، بعدما تعسّر عليه الأمر أولاً في البحث عن بداية.
مربط الفرس، في الكتابة، كما يبدو هذان البابان.. باب البداية، وباب النهاية.. كما لو العتبة والنافذة.. كما لو اللقاء والفراق، أو التحية والعناق.. والقارئ الأجمل من الكاتب.. يراقب، ويقيس، ويحكم.
معاناة الكتابة تشبه معاناة المخاض أو الولادة، والقارئ الأجمل من الكاتب يعرف ذلك.. يعرف أيضاً، أن الطفل الذي يخرج من وطنه الرحم الأول هو أجمل من أمه، وأجمل من أبيه.
ربما بكلمة بسيطة جداً يمكن القول إن القارئ هذا الجميل والطيب العين والرؤية هو أرحم مئة مرة من الناقد الأدبي «المثقف» وصاحب المصطلحات الكبيرة والعنفوان «الفكري».. والغرور.
بكلمة بسيطة أيضاً إن إنسان القراءة هو ذلك البسيط.. النّبه، الهادئ، المتسامح والغني في قلبه وفي إشاراته.. محمولاً دائماً على جناح الطفل فيه.
كتب رسول حمزاتوف من بلده داغستان بريشة الطفل «الجبلي»، وكتب حنّا مينه بالماء ماء البحر الذي نظفه بأملاحه، وكتب حسب الشيخ جعفر بقصبة نخل من البصرة، وكتب مؤنس الرزاز من البحر الميت المالح، وكانت الحجارة بالقرب من قلم خليل حاوي، والأنهار أيضاً، وكان البحر طريق «عونيس» إلى بيته.
.. قرأنا بلطف، ومحبة.. ولم نكن نقاداً متجهمي الوجوه وغلاظ الكلام.

yabolouz@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى