قضايا ودراسات

القدس.. الحلقة الأخيرة

علي قباجه

ربما لن تَمسح عيوننا الحزن عن المساجد بعد هذا اليوم، وربما لن تدور في أروقة المعابد مرة أخرى، غصة في الحلق وألم يعتصر القلب، حينما نرمق زهرة المدائن حزينة وهي تودع مسرى أشرف خلق الله، آه يا مدينة الصلاة، هل حقاً لن ترحل عيوننا مرة أخرى إليك؟!
آه يا مدينة الصلاة، ماذا عساه القلم أن يكتب وهو يرى بني صهيون قد عقدوا العزم وشدوا وثاق التهويد دون مواربة أو تخفٍ؟ «إسرائيل» الجاثمة على صدورنا تعرض الحلقة الأخيرة من مسلسلها، لكن هذا المسلسل لن يكون له، كما يبدو حتى الآن جزء ثانٍ تعود فيه القدس مرة ثانية إلى محيطها العربي والإسلامي. فالكيان الغاصب لجأ إلى سلسلة من الإجراءات الدنيئة التي لم يسبق لها مثيل منذ احتلال المدينة عام 1967؛ حيث منع إقامة الصلوات في المسجد القدسي أياماً عدة، وصادر مفاتيح أبوابه، ومنع المصلين من الدخول إليه، وأدخل عتاة المتطرفين الصهاينة لتنظيف باحاته؛ تمهيداً لانتهاك حرمته وتدنيس بقاعه الطاهرة، كما قامت «إسرائيل» بوضع بوابات إلكترونية على مداخل الحرم لتفتيش المصلين عند الدخول والخروج، لتفرض بذلك واقعاً مشابهاً تماماً لواقع الحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل.
ما يحدث الآن هو آخر مراحل التهويد؛ أي السيطرة على كامل الحرم، للبدء بعملية بناء «الهيكل» المزعوم، وإقامة صلواتهم «التلمودية» فيه. المسجد الأقصى اليوم يعيش آخر فصول مأساته، وهو قاب قوسين أو أدنى من الهدم، الذي لطالما حلم الاحتلال بتنفيذه.
ولكن الأدهى والأمَرّ هو الصمت العربي والإسلامي والدولي المطبق، فلم يحرك أحد ساكناً، ولم تكن هنالك ردة فعل تجاه ما يحدث، وكأن الأمر لا يعني أحداً، حتى بيانات الشجب والاستنكار كانت باهتة وجاءت في سياق رفع العتب، بينما في السابق كان مجرد التفكير باقتحام مستوطن للمسجد، يشكل شرارة تشعل الانتفاضات والحروب، ربما ولّى هذا الزمن دون رجعة في ظل تشظي الشعوب العربية، وانشغالها بوهم ما سُمي ب«الربيع العربي» متناسية بأن كيان الاحتلال سيجعلها تعيش خريفاً وشتاءً قارساً بعد أن يسلب منها قبلتها الأولى، مُنفذاً خطط الضم والمصادرات، وصولاً إلى السيطرة الكاملة، لينتزع من جسد الأمة فؤادها، ويطمس معالم العروبة والإسلام عن المسجد الأقصى.
الأمة صاحبة المنبر والقلم على مر العصور خلدت إلى السبات الشتوي في أوج حرارة الشمس، بعد أن تغيّرت لديها مفاهيم التاريخ والجغرافيا، فبينما الغزاة والأعداء يرتعون في عقر دارنا يصولون ويجولون دون رقيب أو حسيب، يغرق أبناء الأمتين العربية والإسلامية بدماء بعضهم، غير آبهين أو متحركين للصد ولو بالنزر اليسير عن حياضهم، تاركين شذاذ الآفاق يدنسون إحدى أطهر بقاع الأرض، وهم في سباتهم يعمهون.
الأقصى الآن وصل في المصطلح الطبي لمرحلة ال«الكوما» فهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، فما ترياق العرب له، غير جرعات الحب و«بنسلين» العواطف؟!، التباكي لن يغير الواقع من دون عمل، «إسرائيل» تجعل من أحلامها واقعاً يعيشه العرب قبل أن تعيشه هي، فها هو الحرم القدسي يودع أمة لم تتخذ في سبيل الدفاع عنه أي إجراء، ولم تُعدّ لهذا اليوم عدته؛ لكن مع هذا سنظل ننظر للنصف المملوء من الكأس، فباب مدينتا لن يغلق وكلنا إيمان بذلك، فالأقصى له رب يحميه ثم شعب مقدام يقاوم ويذود عنه حتى آخر نفس فيه.

aliqabajah@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى