القدس تعيد الصراع إلى جذوره
حافظ البرغوثي
كثف قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة للكيان خطط الاحتلال ومؤسساته الرسمية والجمعيات الاستيطانية الدينية لتهويد المدينة بالكامل، وتنشيط عمليات تسريب الأراضي والعقارات بشتى الطرق والحيل والوسائل. وقد احتدمت المعركة حول القدس خلال السنوات الأخيرة بسبب الانتهاكات الاحتلالية في المسجد الأقصى وظهرت ثورة السكاكين ضد الاحتلال بدءاً من مدينة القدس ثم هبّة الأقصى التي تكتل فيها المقدسيون أمام بوابات المسجد إثر محاولة الاحتلال تركيب كاميرات مراقبة.
لكن قرار ترامب الذي يتناقض مع القانون الدولي كان بمثابة ضوء أخضر للاحتلال لكي يوسع أنشطته الاستيطانية داخل المدينة ويقمع الاحتجاجات على سياسته وينكل بالأطفال ويعتقلهم ويبعد النشطاء عن الوصول إلى المسجد الأقصى ويعتقل كل من يحاول إزعاج سماسرة التسريب من اليهود والعملاء.
كان المفتي الحاج أمين الحسيني يقول عندما يسمع عن بيع أرض لليهود: «الله يسامحه ويغفر له ويهز ثوبه من العنق كأنما يتبرأ من الاستغفار»، وهي إشارة متعارف عليها، وبعدها يتم قتل البائع أو السمسار. وبعد احتلال شرقي المدينة سنة 1967 كانت سلطات الاحتلال في سباق للاستيلاء على العقارات وهدمها، حيث سارعت إلى هدم الحي المغربي أمام حائط البراق وزاوية أبو السعود وهم أخوال الرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات. وكان أبو عمار رحمه الله يروي أن الحاكم العسكري للمدينة فور احتلالها جاء إلى بيت خالته من آل أبو السعود وعرض عليها بيع بيتها بأي مبلغ لكنها رفضت فقال لها: «سواء وافقت أم لا فإن الجرافات ستأتي غداً لهدم البيوت». وبالفعل جاءت الجرافات وهدمت المنزل.
الاحتلال وضع نصب عينيه تهويد المدينة منذ احتلالها وسن التشريعات الملائمة لدعم الاستيطان والجمعيات الاستيطانية بهدف وضع يده على الأراضي خارج الأسوار لإقامة مستوطنات حول المدينة ثم ركز على الاستيلاء على العقارات داخل البلدة القديمة.
وقد عمل القائد فيصل الحسيني في ثمانينات القرن الماضي على تشكيل لجان الأحياء في حارات القدس لضبط الأمن الداخلي فيها ومنع تسريب أية عقارات لليهود ومقاومة الاحتلال بشتى الوسائل بعد ظهور منظمات يهودية إرهابية كانت تخطط لتدمير الأقصى. واستخدمت سلطات الاحتلال آنذاك سياسة القبضة الحديدية لقمع المقدسيين، وكانت أحداث القدس مقدمة للانتفاضة الأولى.
أثناء الانتفاضة الأولى خفت الأنشطة الاستيطانية في كل أنحاء الضفة وغزة بما فيها القدس بل صارت هناك هجرة عكسية من المستوطنات إلى الداخل. إلا أن الأمور عادت بوتيرة جديدة بعد اتفاق أوسلو.
يحمل السماسرة عادة بطاقات «إسرائيلية» ولا يجوز اعتقالهم بموجب اتفاق أوسلو الذي يحظر على السلطة اعتقال أي «إسرائيلي» أو تسجيل أية مخالفة بحقه حتى لو كانت مخالفة مرور. وكانت عمليات تسريب العقارات في المدينة قبل اتفاق أوسلو تتم عن طريق شراء حقوق المستأجر لأن أغلب بيوت البلدة القديمة هي وقف ولا يحق للمستأجر بيعها، ولكن يحق له أن يتنازل عن حق الاستئجار.
وهناك أساليب أخرى يلجأ إليها الاحتلال وأهمها قانون الغائبين أي مصادرة العقارات التي غاب مالكوها عنها لوجودهم في الخارج عند الاحتلال ولا يستطيعون العودة، أو استغلال الظروف العائلية والاقتصادية للعائلات وتقديم قروض مالية لمن يحتاجها، وأحياناً يتم توقيع المقترض على أوراق لا يعرفها ويتبين أنها تنازل عن بيته.
وهناك أموال طائلة يضعها المتمولون اليهود من أصحاب نوادي القمار في أمريكا مثل موسكوفيتش وادلسون صديق ترامب وجمعيات أمريكية أخرى تحت تصرف الجمعيات الاستيطانية.
العملية الاستيطانية واسعة وضخمة وربما تكون الضربة القاصمة للمدينة ولهذا شنت سلطات الاحتلال حملة اعتقالات شملت كل قيادات «فتح» في المدينة بحجة أنهم وراء حملة التهديد ضد السماسرة بعد اعتقال السلطة لأحد مسربي العقارات ويحمل جنسية «إسرائيلية»- أمريكية وتطالب «إسرائيل» بالإفراج عنه لأنه لا يجوز اعتقاله بموجب أوسلو. وحتى الآن ترفض السلطة الإفراج عنه رغم تدخل السفير الأمريكي فريدمان.
القدس تواجه مصيرها وحدها وتعيش تحت وطأة الضم الزاحف والتطهير العرقي المستمر، ولا توجد استراتيجية فلسطينية أو عربية لمواجهة التهويد. فالقمم العربية المتلاحقة خصصت أموالاً للقدس لم يتم الوفاء بها قط، والاحتلال يعقد الحياة الاقتصادية على أهلها بفرض الضرائب وهدم البيوت بهدف تهجيرهم.
فهل تكون وقفة أهالي القدس مقدمة لانتفاضة جديدة تمحو عار الانقسام والمذلة وتعيد الصراع إلى حقيقته كصراع على الأرض والمقدسات وليس حول غزة وطاولة التفاوض العقيمة.
hafezbargo@hotmail.com