القوة البحرية..
تأليف: جيمس ستافريديس
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
لعبت البحار والمحيطات دوراً كبيراً في تحديد مصاير الشعوب والأمم، وجرت صراعات كبيرة فيها وعليها، بدايتها كان من البحر الأبيض المتوسط الذي شهد أكبر منسوب للعنف تاريخياً بين الإمبراطوريات المتصارعة. وأصبح المحيط الأطلسي، مؤخراً، من المحيطات غير المرغوبة لمسألة السلام والتعاون على المستوى الدولي، لكن هناك تخوف غربي وأمريكي تحديداً من تنامي القوة البحرية الصينية. يحاول الكاتب بحكم خبرته في بحار ومحيطات العالم كضابط كبير في البحرية الأمريكية أن يستعرض الصراعات الجارية ومصالح الدول الكبرى في التحكم بطرق الملاحة البحرية.
يستعرض الأميرال جيمس ستافريديس في هذا العمل المتميز رحلته الحياتية والمهنية المهمة عبر جميع المواقع المائية في العالم، ويقدّم قصة القوة البحرية كعامل في التطور البشري والتاريخ الإنساني بشكل عام، ويتناول دورها كعنصر حاسم في مسارنا الجيوسياسي الراهن.
يأتي الكتاب في تسعة أقسام بعد المقدمة بعنوان «البحر واحد»، وهي: 1) الباسيفيك: أم كل المحيطات. 2) المحيط الأطلسي. مهد الاستعمار. 3) المحيط الهندي: بحر المستقبل. 4) البحر الأبيض المتوسط: حيث بدأت الحروب البحرية. 5) بحر الصين الجنوبي: منطقة نزاع محتملة. 6) البحر الكاريبي: متوقف في الماضي. 7) المحيط المتجمد الشمالي: الوعد والمخاطر. 8) البحر الخارج عن القانون: محيطات كمسارح جرائم. 9) أمريكا والمحيطات: استراتيجية بحرية لأجل القرن الـ21.
بدايات الحروب البحرية
يتطرق ستافريديس إلى الصراعات التاريخية من زمن الإغريق وتصادمهم مع الفرس في البحر الأبيض المتوسط، وكيف أن قوة البحر كانت تحدد موازين القوة العالمية، مشيراً إلى أن دورها لم يتم الاستهانة به منذ فجر التاريخ، وحتى الوقت الراهن. يبين الأميرال ستافريديس كيف شكلت جغرافية المحيطات مصاير الأمم، وكيف صنعت القوة البحرية بالمعنى الحقيقي العالم الذي نحياه اليوم، وكيف أنها ستشكل العالم الذي سنعيشه في المستقبل.
يقدم الكاتب في عمله الصادر حديثاً في 384 صفحة عن دار «بينغوين للنشر» باللغة الإنجليزية، بشكل واضح تاريخاً بحرياً متسلسلاً، عبر رؤية جديدة في الاشتباكات البحرية الكبرى، ويشير إلى أنه بدأت الحرب في البحر في «الساحة التي لا تعرف الكلل» للبحر الأبيض المتوسط، التي تحتفظ بإمكانات كبيرة من العنف، بدءاً من معركة سلاميس التي وقعت في العام 480 قبل الميلاد بين تحالف من المدن اليونانية القديمة والإمبراطورية الفارسية في إطار الحروب الفارسية-اليونانية. جرت المعركة بالقرب من بحر إيجة في مضيق سالاميس بين البر اليوناني وجزيرة سالاميس، وهي جزيرة في خليج سارونيك بالقرب من أثينا، مني فيها الفرس بهزيمة تاريخية.
كما يتوقف عند معركة ليبانت التي وقعت في 7 أكتوبر من العام 1571 بين العثمانيين وتحالف أوروبي، وقد انتهت بهزيمة العثمانيين، وكانت الخسائر في تلك المعركة ضخمة للغاية لكلا الطرفين، إلا أن خسائر العثمانيين المعنوية كانت أشد فداحة من خسائرهم المادية، حيث كانت تلك المعركة الكبيرة ذات مردود سلبي في علاقة الدولة العثمانية بالأوروبيين، إذ أزالت من نفوس الأوربيين أسطورة أن الدولة العثمانية دولة لا تقهر، وهو ما شجع التحالفات الأوروبية ضدها بعد ذلك، وظهرت المراهنات على هزيمتها.
ويتناول معركة ترافلغار (الطرف الأغر أو طرف الغار) التي نشبت بين الأسطول الإنجليزي بقيادة الأميرال هوراشيو نيلسون ضد الأسطولين الفرنسي والإسباني المتحالفين تحت قيادة الأميرال الفرنسي بيير شارلز فيلنوف في 21 أكتوبر 1805 قرب رأس طرف الغار في قادس جنوب غرب إسبانيا، وقد سُمِّي ميدان طرف الغار في لندن باسم هذه المعركة تخليداً لانتصار نيلسون. كانت القوة العسكرية المهيمنة حينها على القارة الأوروبية هي الإمبراطورية الفرنسية بقيادة نابليون، في حين كانت البحرية البريطانية تسيطر على البحار. وأثناء الحرب فرضت القوات البريطانية حصاراً بحرياً على فرنسا ترك تأثيراً كبيراً على التجارة الفرنسية وأبقاها عاجزة عن تعبئة الموارد البحرية الخاصة بها.
ومن بين أهم المعارك التي تطرق إليها الكاتب أيضاً معركة الأطلسي، التي تعتبر أطول حملة عسكرية مستمرة خلال الحرب العالمية الثانية، شنتها ألمانيا النازية على بريطانيا لقطع الإمدادات عنها، فقد كان هتلر مصمماً على قطع الشريان الحيوي الذي يتمثل في المحيط الأطلسي من خلال ضرب السفن التجارية البريطانية وقطع الإمدادات عن بريطانيا القادمة إليها من الولايات المتحدة وكندا، لإجبارها على الاستسلام.
ويشير الكاتب إلى أنه شهدت نهاية عام 1942م بلوغ معركة الأطلسي ذروتها، حيث الصراع بين الغواصات الألمانية والأسلحة البحرية البريطانية والأمريكية والكندية استمر طوال سنة، إذ كان يتفاوت في القوة والكثافة، وكان ميزان القوى يتأرجح من جانبٍ لآخر حسب التقنيات والتكتيكات والقوى البشرية المتوفرة لدى كل جانب، لكن الحقيقة بقيت بأن المبادرة كانت بين أيدي الحلفاء. بعد مواجهتهم للخسارات الفادحة في السفن، أصبحت معركة الأطلسي مهمةً في التخطيط الاستراتيجي والجهود الموجهة نحو معارك الغواصات. وبحلول نهاية عام 1942، ومع وصول خسائر الملاحة التجارية لأعلى معدلاتها، فقد تحطمت أكثر من مئة غواصةٍ ألمانية مع أطقمها، وسحبت الغواصات الألمانية، ثم اتخذت مواقع دفاعية عند شواطئ فرنسا.
قوة البحار
يقدم الكاتب رؤيته الاستراتيجية من مسيرته البحرية الطويلة، وهو يدعم أفكار الضابط الأمريكي ألفريد ثاير ماهان (1840-1914) الذي يطلق عليه الأمريكيون لقب «الاستراتيجي الأمريكي الأكثر أهمية في القرن التاسع عشر الميلادي»، فقد كان مفهومه عن «قوة البحر» مبنياً على فكرة أن الدول صاحبة القوة البحرية الأعظم سيكون لها التأثير الأكبر في جميع أنحاء العالم، ومن المعروف أن هذا المفهوم قُدِمَّ من خلال كتاب تاريخي وهو «تأثير قوة البحر على التاريخ»، وقد كان لهذا المفهوم انعكاسه الكبير في صياغة الفكر الاستراتيجي للقوى البحرية في العالم، وخاصة في الولايات المتحدة وألمانيا واليابان وكذلك بريطانيا. وما تزال أفكاره مسيطرة على مبادئ البحرية الأمريكية.
والأميرال جيمس ستافريديس يؤكد على ما ذهب إليه في أن السيطرة على المحيطات وغيرها من التجمعات الرئيسة للمياه كانت تشكل مصلحة كبرى للقوى العظمى على مر التاريخ. يستخدم ستافريديس تجربته الجيوسياسية في عرض هذه المعلومات بطريقة يوصي فيها الولايات المتحدة بتجنب الحوادث غير الضرورية، والعمل على وضع نفسها في موقع استراتيجي متفوق باستخدام سلطتها البحرية.
يركز خلال عمله على أهمية وحساسية المحيط الهادي والآثار المترتبة على ارتفاع القوة البحرية الصينية، وكيف يمكن لجهودها أن تغير من اللعبة العالمية، إذ إنها تشير إلى قدرات هجومية في المستقبل.. وفي فصل لاحق حول بحر الصين الجنوبى، يحذر من أنه يتعين على الولايات المتحدة أن تتحدى مطالب الصين الإقليمية، وأن تفشل استراتيجيتها العالمية، ويرى أن المواجهة قد تكون ضرورية إذا لم يؤت التعاون الإقليمي ثماره. ويرى أنه يأمل في مبادرات متعددة الجنسيات مثل العملية الأخيرة بين القوات الأمريكية واليابانية والهندية. وعلى الرغم من أن ستافريديس لديه مخاوف بشأن سباق التسلح الإقليمي المتنامي، فإنه لا يزال يؤكد أن المحيط الهادي ربما يواصل تطوره سلمياً.
ويعتبر «العلاقة الخاصة» بين البحرية الأمريكية والبريطانية موضوعاً مهماً آخر، حيث إن المناقشات تتجه نحو المحيط الأطلسي. ويعتقد ستافريديس أنه لأول مرة في التاريخ، برز المحيط الأطلسي كمنطقة غير مستحبة من التعاون والسلام على المستوى العالمي. يجد ستافريديس أن بحر الصين الجنوبي، وهو الوافد الجديد نسبياً إلى الجغرافيا السياسية البحرية، ولكنه يتمتع بأهمية كبرى في القرن الحادي والعشرين. ويعرض أيضاً الأدوار التي يقوم بها البحر الكاريبي والمحيط المتجمد الشمالي.
رؤية استراتيجية
يقول الكاتب في نهاية عمله أن «الكتلة الرئيسة من المياه والتي تعد على بعد مسافة كبيرة من الولايات المتحدة، على الجانب الآخر من العالم، هي المحيط الهندي. هنا يجب أن تأخذ استراتيجيتنا أولاً وقبل كل شيء في الاعتبار قوة الهند العظمى الناشئة. وينبغي أن نفعل كل ما في وسعنا دبلوماسياً وثقافياً وعسكرياً، وسياسياً، لتعزيز علاقاتنا مع الهند. وهذا ينبغي أن يتضمن بوجه خاص التعاون في المجال البحري، بما في ذلك سلسلة جديدة من التدريبات والمناورات مع البحرية الهندية؛ وترويج مبيعات الأجهزة البحرية المتقدمة، ولا سيما منظومة «أيجيس» القتالية؛ والتعاون في تشغيل الغواصات النووية؛ والعمل كذلك مع الهند واليابان على التمارين البحرية التي تركز على مكافحة القرصنة في الطرق المتبعة في المحيط الهندي وحولها؛ وتطوير برنامج لدبلوماسية العلوم البحرية طويلة الأمد للمحيط الهندي».
ويضيف إلى أنه «بالإضافة إلى العمل عن كثب مع الهند، لدينا حليفان أنغلوفونيان كبيران هما نيوزيلندا واستراليا، اللتان تعدّان على درجة من الأهمية أيضاً. فأستراليا ذات أهمية جيوستراتيجية كبيرة نظراً لحجم ساحلها، الذي يتضمن «واجهة بحرية» ساحلية ضخمة على المحيط الهندي. فضلاً عن أن بريطانيا العظمى لا تزال مستمرة بامتلاك جزيرة دييغو غارسيا المرجانية، ولها انتشار دولي حتى بحر الخليج العربي أيضاً، ومشاركتنا هناك ستكون حاسمة».
ويعلق على أهمية الخليج العربي من الناحية البحرية: «والخليج العربي سيستمر في كونه ممراً مائياً مهماً للغاية بالنسبة للولايات المتحدة، والروابط بين المحيط الهندي الكبير والخليج العربي سيكون نقطة تماس «ساخنة» في الشؤون البحرية. يجب على الولايات المتحدة الاستمرار في الحفاظ على أسطول بحري كبير (أسطولها الخامس) في المنطقة». ويقول: «وأخيراً هناك المحيط المتجمد الشمالي، المنطقة الاستراتيجية على قمة العالم سوف تكون مهمة بدرجة متزايدة بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية، ويجب أن يتضمن نهجنا في الشمال، أولاً وقبل كل شيء، ضمان أننا نمتلك ما يكفي من كاسحات الجليد. وهذا يعني برنامجاً استراتيجياً لشراء (أو إيجار) كاسحات الجليد».
بنية تحتية
ويضيف: «بالإضافة إلى ذلك، نحتاج إلى بنية تحتية أكثر للاستكشاف والتنقل في القطب الشمالي. فليس هناك أسطول بحري محدد للمحيط المتجمد الشمالي، وفي اللحظة الراهنة تخصيص أسطول واحد ليس ضرورياً. سيكون النهج الأفضل جعل هذه المنطقة ذات تركيز بالنسبة لحرس السواحل الأمريكي مع تقديم وزارة الدفاع الدعم عند الحاجة إليه».
ويقول أيضاً: «كل من أقصى جنوب المحيط الأطلسي وجنوب المحيط الهادي نسبياً منطقتان آمنتان، ويمكن اعتبارهما مسرحين للأحداث يمكن فيهما استخدام«اقتصاد استراتيجية القوة». وهذا يعني ببساطة أننا لا نحتاج نشر سفن وقواعد بشكل دائم في أي من المنطقتين. سنحتاج فقط القيام برحلات مناسباتية لدعم التواجد وإجراء اتصالات عسكرية – عسكرية أساسية، ولكن لن يتطلب الأمر قوى عسكرية كبيرة».
ويختم الأميرال عمله بالقول: «في النهاية، نحن دولة جزيرة، محاطة بالمحيطات، تقوم على التجارة العالمية، والأسواق الدولية، وبعثات الصيد، الحفارات البحرية، والطرق المائية لمحيطات العالم. من دون المحيطات، وقدرتنا على الإبحار عبرها، سوف نتلاشى بشكل كبير كدولة. فقدرتنا على الملاحة عبر المحيطات ستكون جزءاً حاسماً من رحلة دولتنا في هذا القرن».
نبذة عن المؤلف:
جيمس ستافريديس، أميرال متقاعد من البحرية الأمريكية، والعميد الحالي لمدرسة فليتشر للقانون والدبلوماسية في جامعة تافتس، وهي كلية الدراسات العليا للشؤون الدولية. يعمل ستافريديس كمحلل دبلوماسي دولي ومحلل للأمن القومي في «إن بي سي نيوز» في نيويورك. وهو أيضاً رئيس مجلس إدارة المعهد البحري الأمريكي، وزميل أول في مختبر الفيزياء التطبيقية لجامعة جونز هوبكنز.
درس في الأكاديمية البحرية الأمريكية في 1976. قضى أكثر من 35 عاماً من الخدمة النشطة في البحرية. وقد قاد المدمرات ومجموعة ضربات حاملات الطائرات في القتال، وعمل لمدة سبع سنوات كأميرال بأربع نجوم، من بينها ما يقارب أربع سنوات كأول ضابط في البحرية يتم اختياره قائداً أعلى للقوات المتحالفة للعمليات العالمية في الناتو. بعد تقاعده من البحرية عين عميداً لمدرسة فليتشر للقانون والدبلوماسية في جامعة تافتس في عام 2013. كتب العديد من المقالات حول قضايا الأمن العالمي لصحف «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست»، و«ذا أتلانتيك».