مقالات عامة

اللغة منفى أم وطن؟

د. حسن مدن

شهيرة جداً العبارة المنسوبة إلى الكاتب الجزائري مالك حدّاد: «اللغة الفرنسية منفاي ولذا قررت أن أصمت». وواضح ما تنطوي عليه العبارة من غضب الكاتب وحزنه كونه لم يستطع أن يعبر بلغته الأم، العربية، فظلّ مسكوناً بالشعور أنه يكتب بلغة أجبر على الكتابة بها، ولم تكن هي خياره.
لا تحمل عبارة مالك حداد موقفاً سلبياً تجاه اللغة الفرنسية، التي هي واحدة من أهم وأجمل اللغات العالمية، وإنما تحمل الاحتجاج على ظرف وجد فيه نفسه، هو وسواه من كتاب جزائريين آخرين، محمولين على الكتابة بهذه اللغة، فيما هم محرومون من القدرة على التعبير بلغة شعبهم.
ويحكى أن مالك حداد أتى دمشق في ذروة الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وفي لقاء مع الجمهور السوري المملوء حماسة لثورة الجزائر، اغرورقت عيناه بالدموع لأنه لم يكن قادراً على مخاطبة هذا الجمهور بما يكفي من المفردات العربية لإيصال ما يعتمل في نفسه من مشاعر.
لكن ليس كل الكتاب الجزائريين والعرب المصنفين ككتاب «فرانكفونيين» يحملون الشعور بالألم الذي كان لدى مالك حداد لأنهم يكتبون بالفرنسية، فاللبنانية ناديا تويني مثلاً ترفض الاتهام الموجه لمن يكتبون بالفرنسية بأنهم جيل ترعرع تحت الاستعمار الفرنسي وبأنهم صنيعة مدارس الإرساليات الأجنبية، قائلة: «إن اعتمادنا الفرنسية لغة إبداع نتاج اختيار واعٍ وحر، ولا يعني قطعاً رفضنا لهويتنا اللبنانية والعربية».
الجزائري ياسمينة خضرة يرى أن «الكتابة باللغة الفرنسية تساعد الأجنبي على فهم الحضارة العربية، فلا يمكن أن نصل إلى فهم الآخر بشكل تام إلا حين يتحدث بلغتنا، انطلاقا من فكرة أن اللغة هوية».
لا تخفف هذه الآراء من حقيقة أن الانفصال عن اللغة الأم يظل معضلة ثقافية ونفسية. ولا تسعف ترجمة مؤلفات الكاتب إلى لغته الأم في علاجها، وبالعودة إلى مالك حداد فالترجمة العربية لمؤلفاته، ظلت، على ما يقول الدارسون، أقل وهجاً بكثير من أصلها الفرنسي، ويمكن أن نقول شيئاً مشابهاً عن ترجمة مؤلفات إدوارد سعيد من الإنجليزية إلى العربية.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، يحسن بنا هنا الإشارة إلى ما قاله، شعراً، محمود درويش على لسان إدوارد سعيد حول شعوره ب«غربة» اللغة: «ولي لغتان، نسيت بأيهما/ كنتُ أحلم/ لي لغة إنجليزية للكتابة/ طيّعة المفردات/ ولي لغة من حوار السماء/ مع القدس، فضية النبْر/ لكنها لا تطيع مخيلتي».
في حال عكسية تماماً نجد أن الكاتب الإسباني خوان جويتيسولو الذي غادر بلاده في عهد الديكتاتور فرانكو لأنه لم يعد قادراً على البقاء فيها، ناهيك عن حرية الكتابة، فآثر المنفى، ولكنه لم يعد إلى إسبانيا بعد رحيل فرانكو، فظلّ، وهو بعيد عن وطنه، يشعر بأن لغته هي وطنه الحقيقي، مستشهداً بما قاله روائي مكسيكي معروف: «جنسيتي هي لغة سيرفانتس».

madanbahrain@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى