جديد الكتب

المال الأسود

تأليف: جين ماير
عرض وترجمة: نضال إبراهيم

تتكرر الكثير من الأسئلة عن حالات عدم المساواة في الولايات المتحدة، والفئات المتحكمة التي تؤثر في الكثير من القرارات السياسية الأمريكية. يحاول هذا العمل تحليل ذلك عبر تناول الواقع السياسي الأمريكي الفاسد، وكيفية إنفاق المال السياسي وتأثيره في مستقبل الديمقراطية الأمريكية التي باتت على المحك فيما يبدو، ويقف عند ما يحدث من وراء الكواليس في العمليات الانتخابية بالولايات المتحدة، وكيفية تشكل تحالفات اقتصادية سياسية في الخفاء، تهدف إلى الحفاظ على مصالح قلة من المتنفذين، وكيفية دعم صعود اليمين المتطرف على حساب القيم الأمريكية.
لماذا تعيش الولايات المتحدة الأمريكية في عصر من عدم المساواة الاقتصادية العميقة؟ وعلى الرغم من الحاجة الماسة للتصدي لقضية تغير المناخ، لماذا نجد جهود الناشطين البيئيين المتواضعة قد تعرضت لنكسات مراراً وتكراراً؟ لماذا لم يعد هناك من حماية للموظفين؟ لماذا يدفع أصحاب المليارات ضرائب أقل بكثير من العاملين من الطبقة الوسطى؟ الجواب التقليدي هو أن انتفاضة شعبية ضد «الحكومة الكبيرة» أدت إلى صعود حركة محافظة ذات قاعدة عريضة، ولكن تظهر الكاتبة والصحفية الاستقصائية جين ماير في هذا السرد التاريخي، شبكة من الأشخاص بالغي الثراء لهم وجهات نظر تحررية متطرفة يموّلون خطة ممنهجة خطوة بخطوة لإحداث تغيير جذري في النظام السياسي الأمريكي.
تعتقد هذه الشبكة التي تتكون من أغنى الناس على هذا الكوكب، بشكل راسخ أن الضرائب هي شكل من أشكال الاستبداد، وأن الرقابة الحكومية على الأعمال التجارية هي عملية اعتداء على الحريات. وهذا الاعتقاد نشأ عن الدور الحكومي في وجه المصالح الشخصية لهم ومصالح شركاتهم، خاصة أن العديد من هذه الشركات تعمل بشكل يتناقض مع قوانين التلوث الاتحادي، وتخالف القوانين المتعلقة بسلامة العمال، والأوراق المالية، وقوانين الضرائب وغيرها.

فلسفة سياسية

الشخصيتان الرئيسيتان في الشبكة، هما الأخوان تشارلز وديفيد كوك، ابنا المهندس الكيميائي ورجل الأعمال الأمريكي فريد سي. كوك (1900-1967) مؤسس شركة «صناعات كوك» الذي جمع ثروته بشكل جزئي من بناء مصافي تكرير النفط في روسيا زمن ستالين وألمانيا أثناء حكم هتلر. وكان فريد كوك في وقت لاحق من الأعضاء المؤسسين لجمعية «بيرش جون» التي اتسمت بأنها يمينية راديكالية معادية للشيوعية، لدرجة اعتقادها أن الرئيس الأمريكي دوايت إيزنهاور شيوعي في سياساته. وترى الكاتبة أن الأخوين كوك تربيا على فلسفة سياسية أكدت لهما أن الدور الوحيد للحكومة هو توفير الأمن وإنفاذ حقوق الملكية.
وتشير إلى أنه عندما أثبتت الأفكار التحررية التي كانا يناديان بها، أنها لا تحظى بشعبية لدى الناخبين بشكل قطعي، اختار الأخوان كوك وحلفاؤهما مساراً آخر، حيث جمّعوا مواردهم الهائلة، التي يمكنهم من خلالها تمويل مجموعة متشابكة من المنظمات التي يمكن أن تعمل بشكل متناسق للتأثير والسيطرة في نهاية المطاف على المؤسسات الأكاديمية، ومراكز الأبحاث، والمحاكم، المجالس الحكومية، والكونغرس، وكانوا يأملون، في التأثير في الرئاسة.
أجرت جين ماير في كتابها هذا الصادر حديثاً عن دار «دووبلدي» الأمريكية في 464 صفحة من القطع المتوسط، مئات المقابلات خلال خمس سنوات، من بينها عدة مصادر داخل الشبكة، والسجلات العامة، والأوراق الخاصة، وإجراءات المحاكم في الإبلاغ عن هذا الكتاب. وفي سرد مقنع، تتبع الكاتبة كيفية إنفاق مليارات الدولارات من قبل الشبكة، وتقدم صوراً حية من الشخصيات المتلونة وراء الأوليغارشية الأمريكية الجديدة.
ويأتي الكتاب في ثلاثة أقسام أساسية بعد المقدمة وهي: «تسليح العمل الخيري: حرب الأفكار 1970-2008»، وينقسم إلى خمسة فصول، أما القسم الثاني فهو بعنوان «رعاة سريون، عمليات خفية 2009-2010» وينقسم إلى أربعة فصول، ويحتوي القسم الأخير بعنوان «خصخصة السياسة: المعركة الإجمالية 2011-2014» على أربعة فصول.

الاستثمار في الحملات السياسية

تشير الكاتبة إلى أنه كانت سنة 1980 سنة من الأمل للمحافظين في أمريكا، ولكنه تضاءل بعد سنوات من الفشل المستمر على مستوى القاعدة الشعبية. فالجمهوريون لم يحكموا أياً من المجلسين (الشيوخ والنواب) في الكونغرس، أو الأغلبية في المجالس التشريعية للولايات، لمدة ربع قرن. لكن في نهاية ذلك العام حدث شيئان. أحدهما تم انتخاب الجمهوري رونالد ريغان رئيساً للبلاد. والآخر كان حدثاً خاصاً تماماً لم تظهر أهميته على مدى سنوات. إذ قرر الأخوان تشارلز وديفيد كوك، من مقرهما في كانساس، إنفاق مبالغ ضخمة من المال لانتخاب المحافظين في جميع مستويات الحكومة الأمريكية. ترشح ديفيد كوك لمنصب نائب الرئيس الأمريكي عن الحزب الليبرتاري في عام 1980، ولكن عندما انتهت الحملة، قال إنه مصمم على عدم السعي إلى وظيفة عامة مرة أخرى. وهذا لم يكن مهماً، لكن خلص هو وأخوه إلى أنهما يمكن أن يستثمرا في حملات الآخرين، ويشتريا طريقهما إلى السلطة السياسية.
وتشير إلى أنه بعد ثلاثين عاماً، بشّرت الانتخابات النصفية لعام 2010 باقتراب النظام السياسي الذي قضى كوك سنوات عديدة بالتخطيط لجلبه. وبعد التصويت في تلك السنة، سيطر الجمهوريون على المجالس التشريعية للولايات، وكانوا يسيطرون على أغلبية واضحة للحكام، وقد حصلوا على أحد مجلسي الكونغرس وكانوا في طريقهم للفوز بالآخر. ولعل الأهم من ذلك، كان عدداً لا بأس به من الجمهوريين الذين فازوا بهذه المناصب من البراغماتيين الذين لا زالوا في منتصف طريقهم. كانوا ليبرتاريين مناهضين للحكومة من نفس الخط السياسي للأخوين كوك اللذين أنفقا مئات الملايين من الدولارات لجعل الأغلبية على صورتهما التي يريدانها. وقد نجحا في ذلك. ليس فقط في الانتخابات، بل أنهما ساعدا على تمويل وتنظيم شبكة متشابكة من مؤسسات الفكر والرأي والبرامج الأكاديمية ووسائل الإعلام التي تجاوزت بكثير المعارضة الليبرالية.
حاولت الكاتبة خلال إعداد العمل التحدث إلى تشارلز أوديفيد كوك، لكنهما رفضا التحدث إليها، كما لم تستطع الوصول إلى أهم الشخصيات في هذه الشبكة السياسية. ولكنها في الوقت ذاته وصلت إلى مئات من المصادر التي أرادت التحدث، وهم من نشطاء حملات المحافظين لفترة طويلة، وشركاء الأعمال ومعارضين سياسيين وخبراء التمويل السياسي.

خطف الديمقراطية

تعتقد الكاتبة جين ماير أن الأخوين كوك وحلفاء لهما من الطبقة الثرية المتنفذة خطفوا أساساً الديمقراطية الأمريكية، وذلك باستخدام أموالهم ليس فقط للتنافس مع الخصوم السياسيين، بل لإغراقهم. وفي رأيها، خلق الأخوان كوك وحلفاؤهما بنكاً سياسياً خاصاً يستطيع منح وإنفاق كميات غير محدودة من المال على المرشحين المفضلين، ويتم عمل ذلك بشكل عملي من دون الكشف عن هوية المصدر.
وتلقي ماير أيضاً بعض الضوء على المتواطئين مع الأخوين كوك الذين ساعدوا على بناء الحركة التي تنتشر إلى أبعد من السياسة الانتخابية. ومن بينهم ريتشارد ميلون سكيف، وارث ثروة مصرفية هائلة، وكان حضوره المالي وراء مؤسسة التراث. وأيضاً جون. م. أولين، الذي كانت شركة عائلته الكيميائية المستفيد الأكبر من مشتريات الأسلحة الاتحادية، ركز على استحداث وظائف لأعضاء هيئة التدريس للمحافظين في الجامعات العريقة. والأخوان هاري وليند برادلي، اللذان استخدما الإيرادات من اندماج شركتهم العائلية للإلكترونيات مع روكويل الدولية لتمويل مجموعة كاملة من مشاريع النشر والبحوث. ولكن الهدف الرئيسي كما توضح الكاتبة هو الفوز في الانتخابات.
وتشير الكاتبة إلى أن كل هذه المنظمات والجهات المانحة كانت تروج أيضاً لعقيدة السوق الحرة، والسير وفق ما أعلنه تشارلز كوك في التسعينات «مبادئ السوق غيّرت حياتي». وتجد الكاتبة أن هذه الإيديولوجيا تساعد على تفسير واحدة من أهم حملات كوك في السنوات الأخيرة وهي: الكفاح من أجل منع اتخاذ إجراءات ضد تغير المناخ. وكانت مجموعة «أمريكيون لأجل الازدهار» في طليعة الجماعات المعارضة لفرض إجراءات تتعلق بتغير المناخ على مدى العقد الماضي. وعندما تولى الجمهوريون مجلس النواب في عام 2011، ضغطت مجموعة «أمريكيون لأجل الازدهار»، على المشرعين لدعم عدم فرض ضريبة متعلقة بالمناخ.

المال السياسي

توضح الكاتبة أن القصد من وراء دفاع الأخوين كوك الشرس عن أفكار السوق الحرة، هو من منطلق الحفاظ على المصلحة الذاتية، حيث إنهما استثمرا أموالهما في الكربون، وأي ضريبة على الأمر يمكن أن تتسبب في تأثير كبير في تجارتهما، خاصة أن «صناعات كوك» تعد واحدة من أكبر منتجي النفايات السامة في الولايات المتحدة، ودخلت في قضايا قانونية وقضائية متعلقة بنشاطاتها التلوثية، حتى إنها دفعت عشرات الملايين من الغرامات لتسوية هذه الحالات. هنا تبين الكاتبة أن الأخوين كوك وحلفاءهما من خلال تمويل الشبكة السياسية التي تحقق مصالحهما، يحافظون على ثرواتهم، ويضمنون عدم إصدار قوانين ضد مصالحهم الفعلية.
تشير أيضاً إلى أنه مع المال السياسي، لا توجد وسيلة سهلة لتحديد أين تنتهي الأيديولوجية؟ وأين تبدأ المصلحة الذاتية ومسألة الفساد؟ وتقف ماير عند العديد من القضايا في التاريخ الأمريكي لضمان الحفاظ على المصالح وإسكات الخصوم. إلا أنها على العموم بذلت جهداً كبيراً في هذا العمل، التي تتوقف فيه أيضاً عند حملة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أنفق 66 مليون دولار من ثروته ليتم انتخابه، وسار في خط معاكس ل«وول ستريت»، وهو كسياسي دعم نفسه بأمواله من دون الحاجة إلى أصحاب الثروات.
يحتوي هذا العمل على تفاصيل كثيرة أيضاً تتعلق بالعلاقات الاستخباراتية مع التكتلات الاقتصادية السياسية، وكيفية استخدام المال السياسي بطريقة من شأنها أن تهدد القيم الديمقراطية الأمريكية، وتساهم في التأثير في العديد من القرارات المصيرية في عدد من القضايا التي تهم الأمريكيين أولاً والبشرية بشكل عام.

نبذة عن الكاتبة:

جين ماير كاتبة صحفية استقصائية أمريكية، تعمل لصالح مجلة «نيويوركر»، وهي مؤلفة لثلاثة كتب تعد من الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة الأمريكية وهي: «تدمير الرئيس 1984-1988»، مع دويل مكمانوس، و«العدل الغريب: بيع كلارنس توماس»، مع جيل أبرامسون.
وكتابها «الجانب المظلم: كيف تحوّلت الحرب على الإرهاب إلى حرب على المثُل الأمريكية» حيث منحت زمالة «غوغنهايم» لأجله، كما كان هذا الكتاب من بين عشرة كتب أكثر مبيعاً على قائمة صحيفة «نيويورك تايمز».
وحصلت جين ماير على عدد كبير من الجوائز الصحفية من بينها جائزة «ج.أنتوني لوكاس للكتاب»، وجائزة «غولدسميث للكتاب»، وجائزة «إدوارد وينتال»، جائزة «ريدنهاور»، وجائزة «هيلين بيرنشتاين لمكتبة نيويورك العامة للتميز في الصحافة»، وجائزة «روبرت كينيدي للكتاب». كما كانت من بين المرشحين النهائيين لجائزة الكتاب الوطني في الولايات المتحدة الأمريكية. تعيش ماير في واشنطن العاصمة.

زر الذهاب إلى الأعلى