قضايا ودراسات

المستحيل الذي لا إجابة له

د. عمر عبد العزيز
الدراما التلفزيونية الرمضانية تعبر عن القلق البالغ الذي يحاصر الأمة، فحالة التخلي الحر عن الماضي وأمجاده الغابرة يتجلى في الغياب اللافت للدراما التاريخية التي طالما شكلت رافعة مهمة في الدراما التفزيونية الرمضانية، ليس على مستوى الخطاب الدلالي المتصل بأمجاد التاريخ وحكمته، فحسب، بل أيضاً على مستوى البديل الراهن بطابعه المتسارع المسلوق، فجلّ الأعمال الدرامية التي عرضت على الشاشات العربية كانت على قدر كبير من التواضع الفني، وكان غياب الأعمال المشتركة منعكساً على المستوى الفني المتدني لجلّ تلك الأعمال، لكن الأهم من هذا وذاك، هو التركيز على فئتين اجتماعيتين باهتتين في معادلة المستقبل، واستحقاقاته. الفئتان تمثلتا في الطبقات المحدودة المنتشية بالفجور المالي المقرون بالجهل من جهة، في مقابل الفئات الرثة المنخلعة عن الكرامة الشخصية، والمتماهية مع مصيرها التراجيدي المحتوم، ما يعني التخلي المفاهيمي عن الطبقات الوسطى الوازنة للمجتمع، في مؤشر خطر على تقديم البديل الموضوعي للتطرف، والجنون، حتى إن الوسائط المتعددة، وفي مقدمتها التلفزيون، تتناوب حضوراً مخاتلاً بين بعدين في ظاهرهما التناقض، وفي جوهرهما التكامل.. أقصد «الكباريهات» الفضائية التي تمثل الوجه الآخر لمحافل الدين السياسي الملغومة بخطابات التعصب والفتنة.
هذه الظاهرة الفضائية التي بدت كاسحة في رمضان، تعبير بالغ عن محنة الأمة، وحيرة النخب، وتأرجح العقول والقلوب، ضمن متوالية التدافعات المتسارعة، والتخبطات الكبيرة، والبحث عن أسئلة تنبري أمامنا كما لو أنها المستحيل الذي لا إجابة له.
هذه الظاهرة الفضائية العربية المنسحبة من سؤال التاريخ والمستقبل، انعكست في استغراقها الضمني بكل ماهو جزئي، وعابر، واعتدادها المجاني ببرامج الضحك والسخريات المسيئة، ما يدل دلالة قاطعة على أن القائمين على أمر هذه المنابر الجماهيرية المؤثرة يسيرون خارج الذاكرة والمراجعة والتمعن في الاختيار، لكن الأمر لا يقف عند حدود القائمين على أمر الفضائيات، بل على التجويز بالسكوت والتمرير من قبل القيادات العليا المعنية باتجاهات الرأي العام.
نواجه في العالم العربي إرهاباً مدججاً بالخرافات، والعدمية السلوكية، ولا يمكننا مجابهة هذا التنين العاتي عبر «الكباريهات» الفضائية، والاستخفاف بالعقول والأفئدة، بل بالتصدي القائم على المعرفة والمجادلة المنطقية، والحجة الدامغة، والدراما المعيارية بشمولات الخطاب، والتقنيات الرفيعة، والبرامج التي تقترن بالواقع دونما شطط، واستجداء للمشاهدين العاميين البسطاء.
شكلت برامج ومسلسلات شهر رمضان المبارك مناسبة استثنائية للنظر في الأداء الفضائي الجماهيري العربي، فنحن هنا لا ننكر نجاح وحيوية بعض برامج النخبة الواعية العالمة ببواطن الأمور، ولا يمكننا تخطي النجاحات الملحوظة على خط مواكبة ومقارعة الأزمات العاصفة من خلال البرامج الإخبارية، كما كانت هناك بعض أنماط الدراما الحصيفة البناءة، لكن الغث ساد جل الفضائيات الجماهيرية ذات الرهانات المادية الأفقية، ودونما اعتبار للمعايير الأخرى المتصلة بالتربية، والسلوك، والقيم النبيلة، ومن هنا وجب القول بأهمية إعادة قراءة وتوصيف ما كان بحثاً عن دروب سالكة للانعتاق من فتنة الجنون، والإرهاب، والتفلت، وعلى أن يتوافق العرب على ميثاق شرف إعلامي ينطلق من ثوابت أساسية أبرزها احترام القيم الدينية المقرونة بالمقاصد الرفيعة للشريعة السمحاء، والحفاظ على لغة العرب الجامعة لهم، والمحددة لمكانتهم الحقيقية في التاريخ والجغرافيا، واحترام رموز التاريخ العربي الإسلامي، بالتخلي عن الخوض في خرافات المدونين الوضاعين الكذابين، ومواجهة الإرهاب والتطرف بأدوات تشبيكية متعددة الأبعاد، واعتبار أن الجدية في الممارسة، والمهنية في الأداء، والمعيارية في الرؤية والخطاب، هي الطرق السالكة لإسهام الإعلام المرئي في مواجهة سؤال الراهن والمستقبل.

omaraziz105@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى