جديد الكتب

المفكرون السياسيون من سقراط إلى الوقت الراهن

تأليف: ديفيد باوتشر وبول كيلي
ترجمة وعرض: نضال إبراهيم

إن التفكير في السياسة أو الفكر السياسي يتألف من مجموعة ضخمة من الأنماط والمقاربات. وسعى المفكرون السياسيون إلى تفسير عمل المؤسسات، وتقديم النصح إلى الحكّام، وعرّفوا القيم والمبادئ، وانتقدوا العالم الذي وجدوا أنفسهم فيه. ركّزوا بصورة محددة على المؤسسات الحكومية منها، وهيئات وضع القوانين، وممارسة السلطة القسرية، وعلى نحو أوسع على شخصية المجتمع والناس. في هذا العمل نطلع على مبادئ ونظريات المفكرين السياسيين البارزين الذين صاغوا بطريقة أو بأخرى الهندسة الفكرية لمفاهيمنا الحديثة عن السياسة، ومكانها في الحياة الاجتماعية منذ سقراط إلى الوقت الراهن.
سعى بعض المفكرين السياسيين إلى شرح طبيعة الإنسان ووصفه بأنه حيوان سياسي، في ظل تركيز الفكر السياسي على ما نصفه الآن بعلم الأخلاق أو الفلسفة الأخلاقية، وعلم الاجتماع، وعلم الإنسان، بالإضافة إلى اللاهوت، وعلم ما وراء الطبيعة، وذهبوا إلى تناول دور السياسة في قصة الوجود والازدهار الإنسانيين، وبالتالي تأكيد أهمية النشاط السياسي في الحياة الإنسانية بأكملها. وبعضهم سعى إلى تفسير السبب الذي يجعل السياسة ثانوية – مع أنها ضرورية – عندما يأتي الأمر إلى الحياة الخالدة والخلاص. في حين أدرج البعض النشاط السياسي تحت عوالم النشاط الإنساني مثل «الاقتصاد»، و«المجتمع».
ويقول المؤلفان تعليقاً على ذلك: «هذه التشكيلة من الأنماط والمقاربات والافتراضات جعلت الفكر السياسي نشاطاً فكرياً مثيراً للطلاب والأكاديميين على حد سواء، لا بل مسألة صراع عميق ومستمر بينهم».
ويجد المؤلفان أنه ينبغي علينا أن نطرح مجموعة من الأسئلة عندما نقرأ مبادئ ومفاهيم هؤلاء المفكرين السياسيين الذين نشعر بالصراع في أفكارهم، ومن هذه الأسئلة: «ما معايير الاختيار لدينا؟ هل مبادئ الفكر السياسي الغربي تجسد رواية متقدمة وحيدة من شأنها أن توضح ظهور»القانون الطبيعي» أو انتصار تشكيلة من الديمقراطية الدستورية الليبرالية كشكل نموذجي للحكومة؟ هل استطعنا أن نقدّم مبادئ مختلفة تماماً لمفكرين، من شأنها أن تمثل رواية مختلفة جداً لأصل وطبيعة مفاهيمنا المعاصرة عن السياسة؟ ويشيران إلى أن كل هذه الأسئلة ترتبط بكيفية السؤال الذي يواجه دراسة الفكر السياسي، ويحاولان معالجة بعض هذه الأسئلة، وخاصة من ناحية كيفية النظر إلى ظهور فكرة مبادئ الفكر السياسي، كما يجيبان عن الأسئلة المتعلقة بدراسة المفكرين السياسيين من الماضي.
وحدد المؤلفان عشرة أسئلة هي أسئلة الدراسة التي قاما بها وهي: هل هناك اختلاف بين النظرية السياسية والفلسفة السياسة؟ ما مدى الجدية التي ينبغي أن نأخذ بها فكرة التاريخ في تاريخ الفكر السياسي؟ هل فكر المفكرين السياسيين القدامى أصبح من نصوص الكتب الأثرية النادرة فقط؟ لماذا تهم السياقات اللغوية في فهم المفكرين السياسيين من الماضي؟ هل يمكن للمبادئ الغربية للمفكرين السياسيين أن تكون محط اهتمام لجمهور القراء الغربيين فقط؟ هل غياب الصوت النسائي يجعل مبادئ النظرية السياسية الغربية بعيدة عن اهتمام نصف السكان؟ هل هناك أي مشاكل دائمة في تاريخ الفكر السياسي؟ هل فكرة نص كلاسيكي يشكل مفارقة تاريخية؟ هل تشكل دراسة تاريخ الفكر السياسي ساحة معركة بين المفاهيم العلمية الاجتماعية والإنسانية للعلوم السياسية؟ هل يمكن أن يكون هناك تقدم في النظرية السياسية؟

العالم الكلاسيكي

يأتي الكتاب في ستة أقسام بعد المقدمة التي تبدأ برواية عن أصول دراسة الفكر السياسي كنشاط منفصل، حيث يبدأ مع ظهور الفكر السياسي بهدف إظهار المادة التي ظهرت في الجامعات الأمريكية والبريطانية لخدمة مجموعة من الأغراض، والعديد منها لا تزال موضع اهتمام كبير لدى الطلبة وعلماء الفكر السياسي، وهذه المجموعة توضح صعوبة فرض بنية مشتركة واحدة ومجموعة من المخاوف على الفكر السياسي الغربي.
وتحت عنوان «العالم الكلاسيكي» يأتي القسم الأول من هذا العمل ليغطي فترة ولادة النظرية السياسية في سياق الدولة – المدينة الإغريقية القديمة والجمهورية الرومانية، حيث يبدأ من هذا العالم القديم المختلف جداً الذي تشكلت عبره أفكارنا الحديثة حول مسألة الحياة السياسية، وطبيعة المواطنة وفضائلها، وفكرة العدالة كفضيلة سياسية أساسية، وأهمية السلطة وظهور حكم القانون. ويشير المؤلفان هنا إلى أن أجوبة اليونانيين القدماء على أسئلة متعلقة بطبيعة السياسيين، ومطالب العدالة وطبيعة المواطنة تكون إما غير مجدية أو غير مرغوبة بسبب الاعتماد على طبقة العبيد وإلحاق النساء بالنطاق الخاص، إلا أن التأثير الكبير لسقراط، وأفلاطون، وأرسطو على كل التفكير الغربي اللاحق يجعلهم نقطة البداية الواضحة لأي مفهوم عن المبادئ والشرائع الغربية.
ويبدأ هذا القسم بفصل مهم عن السفسطائيين، وهم مجموعة من المفكرين الذي طور سقراط نظريته السياسية الخاصة ضدهم. ويجدر بالذكر أن السفسطائيين قدّموا النظرية السياسية الأولى المعترف بها في التراث الغربي، ويقدم هذا الفصل الإطار الذي يمكن من خلاله فهم سقراط وأفلاطون، وكذلك أرسطو الذي يعد المصدر الأساسي الآخر للتنظير السياسي الكلاسيكي اليوناني، ومبادئه في النظرية السياسية كعلم سياسي، وهي مختلفة أساساً عن مبادئ أفلاطون، كما يؤسس نموذجاً فكرياً ليس مهماً فقط لأجل التأثير في التنظير المسيحي اللاحق كما في حالة القديس أغسطينوس وتوما الأكويني، بل أيضاً لأنه يقدم غطاء للمنظرين الحداثيين مثل هوبز.

الكنيسة والدولة

والقسم الثاني جاء بعنوان «الكنيسة والدولة» ليغطي فترة المسيحيين الرومانيين الراحلين مثل أغسطينوس، إلى العصور الوسطى مع توما الأكويني والفيلسوف الإيطالي مارسيليوس وينتهي مع الفيلسوف الإيطالي نيقولا ميكافيلي، كبداية العصر الحديث. ويعد أغسطينوس والأكويني الممثلين الرئيسيين للسمات المسيحية في السياسة. كما تشكل مبادئ أغسطينوس المتعلقة بقيود السياسة والخلل البشري كل الفهم الحديث عن العلاقات السياسية. أما الأكويني فقد كان أقل تشاؤماً بكثير، وعمل على تطوير مفردات أساسية في القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية. ويشير المؤلفان إلى أنه على الرغم من أن أوج العصور الوسطى بقي فترة مهمة للفكر فيما يتعلق بالعلاقة بين السياسة والقانون والمبادئ الأخلاقية، لكنهما حصرا اهتمامهما في آراء مارسيليوس الذي يكتب ضمن سياق الجدالات بين الإمبراطورية والبابوية، حيث يقدّم التأثير المتراجع للكنيسة في وجه التحديات لتطلعاتها السياسية العالمية، ولكن أهميته تمتد أيضاً ما وراء سياسة أوج العصور الوسطى كمصدر رئيسي للأفكار الدستورية.
ويختتم المحرران القسم بفصل عن ميكافيلي صاحب مؤلف «الأمير» الذي تميز بتأثيره وفرادته الكبيرة إلى ما بعد عصره، لكن يجده البعض أنه مفكر ذو نظرة إلى الوراء، إذ يحاول أن يستعيد ويطبق الفكر ما قبل المسيحي في السياسة، وقواعد الفضيلة التي تكون منفصلة عن فضائل المسيحية. ويرى المؤلفان أن ميكافيلي يدخل العلاقة المسيحية النموذجية بين السياسة والمبادئ الأخلاقية، إذ بالنسبة له السياسة تخلق الاستقرار الاجتماعي، وتكون ضمنها المبادئ الأخلاقية قادرة على الازدهار.

التنوير العقلاني

وينتقل تركيز الكتاب في القسم الثالث بعنوان «التنوير العقلاني ونقاده» إلى العصر الحديث، متناولاً الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز والمفكر السياسي الإيرلندي إدموند بيرك. ويقول مؤلفا الكتاب إن المفكرين في هذا القسم يشكلون بوضوح الكثير من مفردات السياسة الحديثة وأشكالها المؤسساتية المتصارعة. وكلهم منظرو الدولة- الأمة الشرعية أو القانونية الحديثة، لكن كلاً منهم يقارب ظهور وتبرير هذا الشكل الغريب من الارتباط السياسي بطريقة مختلفة. بالنسبة للبعض تشكل الدولة الحل الضروري لمشكلة الصراع في عالم متعدد، بينما بالنسبة لآخرين، فالدولة مع مبادئ السيادة والحقوق المرتبطة بها هي مشكلة تحتاج إلى التحكم بها وتقييدها.
أما القسم الرابع بعنوان «الراديكالية السياسية» فيتألف من فصول عن «الفيدراليين» والفيلسوفة الإنجليزية ماري وولستونكرافت، والمنظّر السياسي الفرنسي ألكسيس دو توكفيل، وعالم القانون والفيلسوف الإنجليزي جيرمي بنثام، وفصلين عن الفيلسوف والاقتصادي البريطاني جون ستيوارت مل. ويتحدّث في الفصل الأول عن «الفيدراليين»، وأبرزهم الرئيس الرابع للولايات المتحدة جيمس ماديسون المعروف بلقب «أبو الدستور»، حيث لعب دوراً كبيراً ومهماً في وضع الدستور الأمريكي وتوضيحه والدفاع عنه، لكنه كان يدافع أيضاً عن شكل محدد من الجمهورية الدستورية المناسبة لمجتمع متعدد على نطاق عريض، أما ألكسيس دو توكفيل فهو الآخر منظّر أساسي للجمهورية الأمريكية، خاصة في زمن رئاسة أندرو جاكسون الرئيس السابع للولايات المتحدة الأمريكية، وهو أيضاً يعالج الموضوعات الراديكالية على نطاق عريض حول طبيعة الحكومة في مجتمع ديمقراطي متساوٍ جديد تجسده الولايات المتحدة.
ويشير المؤلفان إلى أن الفيلسوفة الإنجليزية ماري وولستونكرافت تعد من النساء القلائل اللواتي ساهمن في وضع المبادئ والقوانين السياسية، كما كانت هناك كاتبات سياسيات عبر العصر الحديث، وقبل ذلك الوقت في الواقع. ويعلقان: «على العموم، سيكون من الخطأ التقليل من أهمية إقصاء النساء من الحياة السياسية العامة. فحقيقة غيابهن عن وضع القوانين والمبادئ السياسية هو ببساطة بسبب إقصائهن السياسي». وفي نهاية القسم الرابع يشير المؤلفان إلى أنه «على الرغم من أن التنوير العقلاني يمتد إلى مبادئنا ونظرياتنا السياسية، هناك إحساس أن الأحداث الخطيرة في عام 1789 والثورة الفرنسية حددتا نقطة كبيرة في تطلعات مفكري التنوير العقلاني ليخضعوا كل مطالب السلطة إلى محكمة المنطق والحكم الفردي. حتى هؤلاء المفكرين الذين استمروا في السعي إلى تطلعات التنوير العقلاني في القرن التاسع عشر، فعلوا ذلك بصيغة أكثر تعقيداً، مدركين لمخاطر التحرير الشامل للمجتمع. وهذا التوتر يمكن ملاحظته بشكل خاص في كتابات جون ستيوارت مل».

ثورة في الأفكار السياسية

المبدأ الأساسي الذي يوحّد القسم الخامس بعنوان «الثورة في الأفكار السياسية» هو الفكرة الثورية للعلاقة المتشكلة بين العقل والواقع، وتحوّل الممارسة والنظرية السياسية التي جاءت بعدها. ويقول المؤلفان إن «مشكلة نظرية المعرفة في أوائل الفترة الحديثة الأولى كانت لرؤية عالم الأفكار كجسر بين العقل والأشياء التي تقع خارجه. والعقلانيون مثل الفيسلوف الفرنسي ديكارت، والتجريبيون مثل المنظر والفيلسوف الإنجليزي جون لوك الذي أكد بشكل ملاحظ أن العقل يجب أن يكون مطابقاً للواقع». كما يتحدثان عن الفلسفة السياسية للألماني إيمانويل كانت الذي كان من أنصار النظرية الأخلاقية في أوروبا، كما فرضت آراؤه تأثيراً كبيراً في الفلسفة السياسية الحديثة. وخصص الكاتب فصلين كذلك للحديث عن تأثير فلسفة هيغل وماركس في النظرية السياسية.
في القسم الأخير من الكتاب بعنوان «القرن العشرون: أربع مقاربات» اختار المؤلفان بطريقة تثير الجدل أربعة ممثلين عن القرن العشرين، وكان اختيارهما لمفكرين انغمسوا في كل من التحدي النيشتاوي للعدمية ومع إرث المبادئ والشرائع التي تم عرضها في الأقسام السابقة، وكل مفكر من هؤلاء يسلط الضوء على مراحل مختلفة من ذلك الإرث ليخرج برواية عن الآفاق المستقبلية للنظرية السياسية. وهؤلاء المفكرون هم: الإنجليزيان مايكل أوكشوت، وجون رولس، والألماني يورجن هابرماس الذي ما زال على قيد الحياة، والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو. ويتناولان رؤية أوكشوت المعقدة عن السياسة التي تسلط الضوء على سياسة أوغسطينوس فيما يتعلق بالخلل البشري، بالإضافة إلى الشكوكية الحذرة للفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم وتاريخانية هيغل. كما يتوقفان عند رولس وهابرماس اللذين يقدمان أسلوبين مختلفين لإحياء إرث التنوير العقلاني من دون الانجذاب إلى القانون الطبيعي. كما يشيران إلى ما يعرضه فوكو من استمرارية نموذج النقد الراديكالي الذي استقاه من ماركس ونيتشه. ويعلق المحرران أن هؤلاء المفكرين الأربعة يقدمون معاً روايات العلاقة المستمرة للنصوص العظيمة للفكر السياسي لأجل النشاط المستمر للتنظير السياسي في قرن جديد.
يشكل الكتاب مرجعاً مهماً للمهتمين والطلاب والأكاديميين في التعرف إلى النظرية السياسية وتأثير أبرز المفكرين والفلاسفة السياسيين في العالم.

زر الذهاب إلى الأعلى