قضايا ودراسات

الملف الأوروبي بين ميركل وماكرون

الحسين الزاوي
تابعت أوروبا، وفي مقدمها ألمانيا، تفاصيل ما حدث مؤخراً على مستوى المشهد السياسي الفرنسي، باهتمام بالغ، وحبس الكثيرون أنفاسهم عندما صعدت مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان إلى جولة الإعادة في انتخابات الرئاسة الفرنسية، لتسود بعد ذلك موجة من الارتياح العميق مجمل العواصم الأوروبية والعالمية، بعد إعلان النتائج الأولية للانتخابات التي أشارت بشكل واضح إلى فوز ايمانويل ماكرون بفارق كبير على غريمته لوبان. لاسيما وأن الرئيس السابق فرانسوا هولاند، كان أعلن قبل انطلاق الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، أن الاختيار بين المرشحين هو اختيار في اللحظة نفسها بين مشروع يدافع عن الوحدة الأوروبية، وبين مشروع منافس يدعو إلى الانغلاق، ويسعى إلى تقويض تلك الوحدة، ويهدف إلى إقناع الفرنسيين بضرورة التخلي عن العملة الأوربية المشتركة اليورو.
وقد أجمع المراقبون على أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل كانت أكثر الأوروبيين سعادة بفوز ماكرون، نظراً للدور المحوري الذي يقوم به الثنائي الفرنسي – الألماني، من أجل المحافظة على مؤسسات الاتحاد الأوروبي منذ الخمسينات من القرن الماضي؛ وبالتالي فإنه لم يكن من باب الصدفة أن يخصص ماكرون أول زيارة له خارج الديار الفرنسية إلى ألمانيا، بعد يوم واحد فقط، من مراسيم تسلمه لمقاليد السلطة في الإليزيه، من أجل إجراء أول مشاورات رسمية مع ميركل بشأن مستقبل الاتحاد القاري، وفي مقدمها ملفات الإصلاح التي تتبناها القيادة الفرنسية الجديدة، وتسعى من ثمة إلى إقناع الطرف الألماني بضرورة التشاور الجدي بشأنها بهدف إيجاد أرضية تفاهم مشتركة.
وعليه فإن فرنسا ستسعى في المرحلة المقبلة إلى تفعيل كل العناصر المتعلقة بالملف الأوروبي، من خلال العمل على تحويل مؤسسات الاتحاد إلى محرّك فعّال لكل الخطط المتعلقة ببعث النمو الاقتصادي في فرنسا، وبقية الدول الأوروبية، مع الحرص في اللحظة نفسها على إقناع الطرف الألماني بضرورة القيام بتنسيق أكبر للسياسات الاقتصادية على مستوى منطقة اليورو من خلال اعتماد ميزانية مشتركة يشرف عليها وزير اقتصاد ومالية يعينه الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يتطلب إجراء مزيد من التعديلات على مستوى نصوص المعاهدات الأوروبية المعتمدة حالياً. وبموازاة هذا الحماس الفرنسي، فإننا نلحظ في المقابل بعض التحفظ والحذر لدى الجانب الألماني، بخاصة في هذه المرحلة التي تتميز بتزايد أعداد المعارضين للاتحاد داخل الكثير من الدول الأوروبية. وتعمل ألمانيا في السياق نفسه على تذكير الشريك الفرنسي بضرورة خفض عجز الميزانية، عوض التفكير في إنشاء مزيد من المؤسسات والهياكل التنظيمية داخل الاتحاد، لأن هناك قسماً معتبراً من الرأي العام الألماني يرفض التضحية بفائض الميزانية المتوافر لدى برلين، ولا يريد تحمّل أعباء ديون الدول الأوروبية المتعثرة اقتصادياً.
وعلقت الكثير من الصحف الألمانية في سياق متصل، مباشرة بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية في فرنسا قائلة: كم سيكلفنا ماكرون؟ وحاولت بعضها أن تتلاعب بدلالة كلمتي «العزيز»، و«الباهظ»، في اللغة الفرنسية اللتين تكتبان بطريقة متقاربة، لتؤكد في اللحظة نفسها أن ألمانيا فرحة بفوز ماكرون «العزيز» على أوروبا، ولكن المكلف، و«الباهظ الثمن» بالنسبة لألمانيا، التي سبق لها أن وعدت القيادة الفرنسية الجديدة من أجل مساعدتها على تجاوز صعوباتها الاقتصادية، انطلاقاً من قناعتها بأن مستقبل أوروبا سيكون مظلماً مع وجود دولة فرنسية ضعيفة، وبالتالي فإن برلين تنتظر الآن نتائج الانتخابات التشريعية التي ستشهدها البلاد مع نهاية شهر سبتمبر/أيلول المقبل من أجل النظر في إمكانية تبني حزمة جديدة من الإصلاحات على المستوى الأوروبي.
ويمكن القول إن الحكومة الفرنسية التي جرى تشكيلها مؤخراً برئاسة إدوارد فليب، ستعمل طبقاً لتوجيهات الرئيس ماكرون على الاهتمام بشكل لافت بالملف الأوروبي، ويبدو ذلك جلياً من خلال تعيين سيلفي غولار عضو البرلمان الأوروبي والمستشارة السابقة لرئيس المفوضية الأوروبية رومانو برودي، على رأس حقيبة الدفاع بهدف إقناع الشركاء الأوروبيين بأهمية تبني سياسة دفاعية مشتركة على مستوى مجموع دول القارة، كما تجلى ذلك أيضاً من خلال تعيين جون إيف لودريان وزيراً لأوروبا والشؤون الخارجية.
ويأتي كل هذا الحراك الفرنسي في سياق وجود ديناميكية جديدة لدى العديد من النخب السياسية الألمانية التي تدعم الأجندة الفرنسية، وتسعى من ثمة إلى إقناع المستشارة ميركل بأهمية تبني نوع من المرونة على مستوى الميزانية الأوروبية، إضافة إلى تأسيس صندوق استثمار ألماني – فرنسي بغرض تحفيز النمو في أوروبا. كما تدعم هذه النخب الألمانية الرغبة الفرنسية التي تطالب ألمانيا بلعب دور أكبر في السياسة الدفاعية لأوروبا، بخاصة بعد خروج بريطانيا، ولكن مع المحافظة في الآن نفسه، على الطابع السلمي للعقيدة العسكرية الألمانية، بسبب وجود مخاوف كبيرة لدى كلا الطرفين من فرضية إعادة عسكرة المجتمع الألماني.
ونعتقد في هذه العجالة، أن المحرك الألماني- الفرنسي بات يملك الآن الكثير من المقوّمات التي تسمح له بتحقيق انطلاقة جديدة على مستوى مؤسسات الاتحاد الأوروبي، بخاصة بعد أن طمأن ماركون نظيرته الألمانية أن خطط الإصلاح التي تتبناها فرنسا لا تهدف إلى دفع ألمانيا إلى تمويل العجز المسجل على مستوى الاقتصادات المحلية. وبالتالي فإن الجانبين لديهما استعداد كبير من أجل تفعيل هذا المحرك، حتى إن اقتضى الأمر التضحية ببعض الأعضاء الجدد وغير المتحمسين، الذين لديهم ميل كبير نحو النفوذ البريطاني والأمريكي في القارة العجوز.

hzaoui63@yahoo.fr

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى